مثّل ظهور الربيع العربي وانتصار الثورات السلمية في كل من تونس ومصر، أملاً لغالبية الشعب السوري بإمكانية التغيير السلمي نحو الحرية والكرامة ودولة المواطنة.
وبالنظر إلى أن أسباب اشتعال الثورات في تلك البلدان لم تكن بعيدة عن واقع المجتمع السوري بمختلف شرائحه. ورغم عدم اهتمام الشريحة الأعظم من النساء بشؤون السياسة، تروي عدد من الناشطات كيف تحولت أحاديثهنّ في المجالس الضيقة آنذاك إلى أخبار الثورات، والتنبؤات المتفائلة حيناً والمتوجسة حيناً آخر حول إمكانية وصول رياح التغيير إلى سوريا، وما يمكن أن تحمله من احتمالات الإصلاح السياسي أو العنف والفوضى.
حيث لم يكن الوضع العام في سوريا يبشر بإحداث تغيير جوهري على المدى القريب، في ظل منظومة الحكم نفسها، خصوصاً مع سياسة القمع “الأمني”، الذي يجعل مصير أي فعل معارض مشهداً أقرب لأحداث حماة التي “ربّت الشعب السوري” كما يتردد على لسان أكثر السوريين، وغيرها من أفعال التنكيل بالمعارضين على مدى أكثر من أربعة عقود لحكم عائلة الأسد وحزب البعث.
كسر حاجز الخوف
بدأ البحث عن سبل استثمار فرصة التغيير التي لاحت في المنطقة، من خلال التجمعات الشبابية التي أخذت بالتشكل تدريجياً على أساس الاهتمام والتوجه الفكري أو المهني؛ أو وفقاً لرابطة الحيّ؛ الجامعة أو التجمعات الدينية. مستفيدين من متابعة الحراك السلمي المنظّم في مصر (مثل حركة شباب ستة أبريل وحركة كفاية) على وسائل التواصل الاجتماعي، الذي كان له الدور الأهم في هدم جدران القمع الأمني بين التجمعات السرية والجمهور المجتمعي الأعرض، لتتحول تلك الوسائل، وخصوصاً موقع “فيس بوك”، من أدوات اتصال إلكترونية بسيطة إلى أداة ثورية تنطوي على قيمة تغييرية في حد ذاتها.
وفي دمشق، بدأت عدد من الناشطات السياسيات أمثال سهير الأتاسي وكاترين التلّي وغيرهنّ، بالتواصل والتنسيق فرادى -دون تمثيل المجموعات أو التوجهات التي ينتمين لها- مع عدد من الشباب لتنظيم فعاليات داعمة لثورات الربيع العربي، تهدف في الوقت نفسه إلى تحريك الشارع.
وفي ظل تشديد الإجراءات الأمنية، والاحتقان الشعبي المتراكم تجاه نظام الحكم، مثّلت تلك الفعاليات الخطوة الأولى على طريق كسر حاجز الخوف، من خلال التجمع والهتاف بالحرية والإصلاح الديمقراطي في شوارع سوريا.
وحول بدء الانخراط الثوري، تروي العديد من الناشطات كيف بدأن بالبحث عن مواعيد وأماكن الاعتصامات والوقفات التضامنية، عبر الحسابات الشخصية للناشطين السياسيين التي غدت آنذاك منفذاً افتراضياً للتحشيد السياسي وتجمُّع مؤيدي التغيير، ونواةً لشبكة الحراك الثوري تتسع شيئاً فشيئاً لتضم مختلف التوجهات الإيديولوجية والشرائح الاجتماعية والانتماءات الثقافية.
وكانت فعاليات تأييد الربيع العربي في الغالب تترافق مع هجوم عناصر النظام واعتقال المشاركين والمساءلة الأمنية. الأمر الذي جعل عدداً من الناشطين والناشطات يلجؤون للتواري تحت أسماء وهمية على مواقع التواصل الاجتماعي أمثال الناشطات: حرة دمشقية؛ بنت الشام؛ مجد سورية…الخ، على الرغم من الحاجة لاستخدام الأسماء الصريحة في تلك الفترة لتعزيز الثقة بدعوات الاعتصامات وتوسع الحراك.
وفي ظلّ حجب نظام الأسد لمواقع التواصل، استخدم الناشطون تقنيات إلكترونية مثل Virtual Private Network (VPN) وProxy (مخدّم عبور) بما يتيح الدخول من شبكة إحدى الدول المجاورة إلى مواقع التواصل، ويلتف على الرقابة الحكومية المفروضة على الاتصالات.
إرهاصات الثورة
آتت فعاليات تأييد الربيع العربي في سوريا ثمارها مطلع 2011، بإيجادها ضجيجاً سياسياً شعبياً تجرّأ على الهتاف بمطالب الحرية والكرامة ومكافحة الفساد، وتطور سريعاً إلى تحشيد افتراضي علني لمطلب التغيير السلمي، كان يتغذى على الاعتصامات الشعبية التي كان للمرأة فيها حضور بارز على مستويات التنظيم والمشاركة.
ومن أبرز الأمثلة، الاعتصام الذي نظمته ناشطات سياسيات تضامناً مع الإضراب عن الطعام الذي بدأته المعتقلة السياسية تهامة معروف من سجنها يوم 19 شباط 2011 إثر عملها بإرهاصات الحراك الشعبي.
وما تبعه من إضراب عن الطعام والشراب قامت به المعتقلة السياسية هيرفين أوسي. إلى جانب المشاركة في المظاهرات وتجاوز هتافات التضامن مع الثورات العربية إلى أخرى موجهة ضد نظام الحكم. كهتاف “خاين يلي بيسرق شعبه” الذي أطلقته سيدة قارب عمرها الستين عاماً أثناء مشاركتها في اعتصام دعم الثورة الليبية يوم 22 شباط 2011.
ولا شك في الأثر الذي أحدثته مظاهرة 15 آذار 2011 في سوق الحميدية بمنطقة دمشق القديمة بسبب جرأة موقعها من جهة، ومن جهة أخرى بسبب تداول تصويرها على الإعلام وظهور الناشطة مروة الغميان بمواجهة الأمن تحاول تثبيت المتظاهرين والهتاف بالحرية والسلمية، إلى أن قام الأمن باعتقالها وأختها الأصغر ومعهما نورا الرفاعي باستخدام العنف، التصوير الذي حفز الكثيرات من النساء السوريات للانضمام إلى الانتفاضة الشعبية.
انخراط السوريات في الثورة السورية
وتصاعد انخراط النساء في الحراك الثوري بدايةً من خلال النشاط الإعلامي، كالظهور على وسائل الإعلام الدولية لنقل مجريات الحراك كالناشطات سمة عبد ربه ومنتهى الأطرش ومرح البقاعي ومي سكاف وغيرهنّ، ممن ساهم في نفي رواية النظام حول اعتبار المتظاهرين مجموعة من العصابات المسلحة والمندسين المدعومين من الخارج.
وفي المقابل، صعدت الذراع الأمنية لنظام الأسد تعنيفها للمتظاهرين باعتقالات جماعية لم تستثن الناشطات. من أمثال صبا حسن وربا وليلى اللبواني ونسرين حسين ووفاء اللحام وغيرهنّ، وممن شاركن باعتصام يوم 16 آذار 2011 أمام وزارة الداخلية بدمشق للمطالبة بإطلاق سراح معتقلي الرأي.
كما كسرت تلك الفعاليات حاجز الصمت الشعبي لأول مرة في سوريا منذ أكثر من أربعين سنة. وأسهمت في تلاقح الدعوات الشعبية المتفرقة بين مؤيدي التغيير السلمي على تنوع مشاربهم. ليشهد الأسبوع الثالث من شهر آذار 2011 ولادة فعاليات تجمع بين شرائح شعبية وسياسية مختلفة تحت هتاف “الشعب السوري واحد” وهتاف “حرية، سلمية”، في ثورة سلمية سيقابلها نظام الحكم بالتصعيد العسكري. مما سيوجد حالة من التعاطف الجمعي تُخرِج السوريين عن صمتهم، وتنقل المحتجين من مطلب الإصلاح السياسي إلى إسقاط النظام، مع تداعيات ذلك على مسار الثورة السورية ككل.