رضخت المرأة السورية للوصاية الذكورية في سلوكها وطريقة معيشتها لعقود طويلة من الزمان، وعانت في مجتمعها من القوانين التي صيغت حسب رؤية الرجل واهتماماته، بمعنى آخر كانت القوانين في سوريا مفصَّلة على مقاس الرجل وذوقه، في هذا المجتمع يُنظر للمرأة على أنَّها كائن ضعيف والرجل قوي وقادر، تُعامل المرأة وفق عواطفها ومشاعرها والرجل يوصف بالعقلانية والحكمة، تُقيَّم أعمال المرأة بسلبية، بل ويُستنكر دخولها إلى مجال الثقافة والفنون والسياسة، المساواة غائبة أينما ذهبت وحلَّت؛ لأنها في الهوية أنثى ولأنه في الهوية ذكر!
في هذه الثقافة التي تحكمها العادات والتقاليد البالية تصنَّف المرأة على أنها عورة كلها من رأسها حتَّى أخمص قدميها، ومن الطبيعي أن تُنتج هذه الثقافة نساء يعانين من مركبات نقص حادة، بعضهن لم يستطعن تجاوز هذا النقص المكتسب والذي تعمل الأسرة منذ نعومة أظافر الفتيات على خلقه في نفوسهن، وذلك لأنَّ هذه الأمراض النفسية تبدأ بالتشكُّل حين لا تحظى الفتاة الصغيرة باهتمام عائلتها كذاك الاهتمام الذي يحظى به أخوها الذكر، تنكمش الفتاة على ذاتها، وتبدأ تخزن عاطفة الكراهية لكل الأشخاص من حولها، وعندما تصبح في سنِّ البلوغ تتعمق هذه المشاعر حين يحظر على الفتاة أشياء كثيرة من دون تفسير واضح بسبب تلك التغيرات الفيزيولوجية التي طرأت على جسدها، وتفرض عليها كثيرا من الأشياء فرضاً إجبارياً، من دون تبرير منطقي أيضاً، ممَّا يضيق عليها عالمها حتَّى يصبح بشكلٍ أو بآخر سجناً يُمارس عليها فيه جميع أفراد العائلة أنواع الاضطهاد والنكران.
لقد سيطر النظام الأبوي على البنية الذهنية في المجتمع السوري، ورسَّخ النظام الأسدي هذا النظام بكلِّ إمكانياته، وذلك من خلال سنِّه للقوانين التي تنتصر للرجل على المرأة، وفي إنشائه الاتحاد العام النسائي الذي يشرف على نشاطاته حزب البعث العربي الاشتراكي مباشرة، ومن ثمَّ فإنَّه قام بالترويج لمفاهيم البعث عبره، ولا يزال هذا الاتحاد يمارس تشبيحه، ولكنه انتحى بعد الثورة منحى علنياً وواضحاً لتصبح دعاوي تحرير المرأة والمطالبة بمساواتها مع الرجل فيه قيداً في يديها لا تؤدي دورها في توعيتها وأخذ حقوقها المستلبة.
عندما اندلعت الثورة في سوريا على النظام الاستبدادي أصبحت الظروف ملائمة أكثر من أيِّ وقت مضى لتخرج المرأة عن صمتها، وتكسر الحاجز الذي تمَّ بناؤه ليحدَّ من حريتها ويهين من كرامتها، عملت المرأة السورية في الأعمال الإغاثية والطبية، وخرجت في المظاهرات إلى جانب الرجل، ولم تكن فقط تنادي بإسقاط النظام الفاسد، بل كانت تصرخ بأعلى صوتها لتسقط العادات والتقاليد الظالمة التي لم تحترم خصوصيتها، وكانت تنظر إليها بوصفها ناقصة عقل ودين، خرجت رافضة كلَّ الحيف الذي وقع عليها لسنوات طويلة، هي التي مُنعت من حقها في التعلُّم أو إتمام تعليمها، هي التي دُجِّنت في بيت الزوجية لتصبح ربة منزل تطبخ وتنظف وتربي أولادها وهي لا تزال طفلة كانت منذ وقت قصير تلعب بدميتها أو مع أقرانها أمام باب المنزل، هي التي عُنِّفت من قبل أبيها وإخوتها الذكور وزوجها بالضرب والشتم والإهانة من دون سبب سوى لأنها الأضعف، هي التي ما اختارت في يوم ما مستقبلها، عرفت أنه الآن يحق لها أن تختار باسم الحرية طريق حلمها في أن تكون ذاتها وحدها، وإن كان في درب الجلجلة كثير من الأشواك والعقبات.
وكما كانت المرأة السورية رهينة اعتقال عادات وتقاليد مجتمعها، فإنها بعد أن ثارت ضدَّ الاستبداد عاشت تجربة السجن الفيزيائي على يد النظام الأسدي ورجالاته، هذا النظام الذي كان يروِّج للمرأة على أنها جسد يجب أن ينهش، وبالتالي كان اعتقالها لسببين، الأول اعتقالها لاستخدامها وسيلة وورقة رابحة للضغط على ذويها الناشطين ضدَّ النظام، فكانت المرأة الطعم الأمثل في سنارتهم لاصطياد من يرغبون بالقبض عليهم، والثاني كان اعتقالها لذاتها، لأنَّها ثارت بنفسها، وقد استخدم جنود النظام جميع وسائل التعذيب ذات المنحى الجنسي الذي يؤثر تأثيراً عميقاً فيها مما يجبرها على الاعتراف بما فعلت وبما لم تفعل، كالتحرش اللفظي والجسدي، والاغتصاب أو التهديد به.
تفقد المرأة في السجن خصوصيتها ويصبح جسدها مباحاً إمعاناً في إذلالها وإهانة كرامتها، وتذكر الكثيرات ممن خرجن من سجون النظام أنهن كن يتعرضن للتفتيش بطريقة لا أخلاقية، حيث يتم تعريتهن بالكامل أمام السجانين الذين لا يفوتون هذه الفرصة لممارسة ساديتهم الجنسية، وإذا حالفها الحظ فتقوم واحدة من السجينات السابقات بأمر من رجال الأمن بتعريتها أمام السجينات الأخريات، وهم في ذلك يريدون إيصال رسالة خفية مضمونها أنهم يستطيعون أن يصلوا إلى جسدها في الوقت الذي يشاؤون.
إنَّ ما عانته المرأة السورية من سجون متعاقبة اختلف شكلها وتغيرت مسمياتها لن يكون حدَّاً لنهايتها، فها هي اليوم تكتب عن تجاربها وتتحدث للمحطات الإذاعية والتلفزيونية لتفضح ما يسعى النظام لإخفائه عن العالم، هي اليوم رغم المرار أقوى من قبل، وما عادت نظرة المجتمع تشكل عندها نقطة ضعف إن كانت ما تسعى إليه هو حريتها وكرامتها.