السوريون بين صدمة القذيفة وثقب الضمير العالمي

نوفمبر 29, 2022

أحمد الشمام

مقالات

خارج حمى الحرب الروسية والإعلام المرافق لها من صحف وقنوات فضائية وحتى مواقع تواصل اجتماعي، تلك التي كانت تلغي أي منشور يصور عنفا بما أنه يخص أبناء الشرق المنتهك؛ وباتت تروج لنفس المحتوى ما دام يخص عدوا لأوروبا، وبينما يتجه علماء اجتماع وسياسة ومؤسسات بحثية في بلدان اللجوء الأوروبية نحو دراسة المهاجرين عموما والسوريين، ونسب الاندماج الهلامي الذي ضاعت ملامحه بين معتنقيه ورافضيه من المهاجرين، ورغم دقة وسائل البحث وأدواته في أوروبا نجد أن الدراسات البحثية التقييمية التي هي قيد العمل الآن والتي تلقينا طلبات الخضوع لها كعينات بحثية؛ قد ذهبت باتجاه محدد ليست غايته معرفة اجتماعية بحتة بقدر ما هي تخدم رؤية وتصورا محددين مسبقا لصالح مؤسسة معينة. ويبدو ذلك عاديا ومقبولا تماما في دول تقيم الأبحاث بهدف إيجاد تصور عام عن كل ما يمكن توقعه من أزمات ومشكلات واستنباط حلول مسبقة لها، غير أن خطأ منهجيا خضعت له هذه المشاريع- المنظورة- ينبع من معالجتها فكرة الاندماج ومعوقاته من حيث هو تجربة هجرة بعيدا عن أسبابها وسياقاتها وسؤال كونها اختيارية أم قسرية. وكأن العمل المطلوب هو طرق إدماج اللاجئ المحكوم عليه بالعجز دوما انطلاقا من رؤية فوقية وصورة نمطية مسبقة تحيل وضعه للدين أو العادات أو انتسابه للعالم الثالث.

تتضافر عدة أسباب ودوافع شكلت حمولات نفسية لدى المهاجرين، وأزمات مركبة لا يمكن طرحها عبر دراسة المؤسسات الرسمية لمفهوم الاندماج وحده، من هذه العوامل تراكم عدة مؤثرات في نفسية المهاجر عموما تبدأ من حالة الهجرة الاختيارية من الوطن إلى بلد آخر للعمل وتحسين أسباب الحياة، وخلفت أثرا سلبيا، وهو ما يمكن أن نشهده لدى المهاجرين قبل الثورة السورية، أو لدى الطلاب السوريين الذين هاجروا طلبا للعلم في بريطانيا وفرنسا أو إلى روسيا، فهي تشكل أثرا وسطا يتشارك فيه المهاجرون الاختياريون باختلاف ثقافاتهم، ويمكن القول إن صدمة الغربة وصدمة الحضارة المادية والثقافية شكلا متنها الأساسي الذي لم يترك أثرا عميقا؛ بسبب شعور أغلب الطلبة أن مرحلة دراستهم مؤقتة وستنتهي يوما ما ويعودون لأوطانهم حاملين لشهادات تخولهم للعمل والحياة، وقد تكون دراسات المؤسسات الأوروبية ناجعة في تلك المرحلة لأنها تدرس أثرا لعامل واحد هو تغير المكان والثقافة ولو مؤقتا، بينما تتكشف أسباب عميقة للمأساة السورية في نفوس السوريين الذي هاجروا هربا بأرواحهم وأطفالهم من بطش النظام وإجرامه في وطن أصبحت فيه الحياة احتمالا ضيقا، وخذلهم العالم الذي انتظروا نصرته فخابت كل آمالهم بخطوط العالم الحمراء وقلق مسؤولي الأمم المتحدة.

درس الأطباء وعلماء النفس في الحرب العالمية الأولى وتأثيرها على الجنود أعراضا تم تشخيصها علميا بما سموه صدمة القذيفة (shell shock)، وهي التي تصيب الجنود الذين لم يموتوا في الحرب وشهدوا انفجار القذائف برفاقهم، ولسنا بوارد من تم تشخيص أعراض مرضية جسدية لديهم نتيجة تعرضهم المباشر لضغط الانفجارات القريبة؛ بل بأولئك الذين رغم بعدهم عن آثار الانفجار عاينوا الصراخ في أرض المعركة وأصوات القصف والقنابل فأصيبوا بالصدمة التي أُقِرَّت علميا في بعض الدراسات تحت مسمى متلازمة أو اضطراب ما بعد الصدمة تطويرا للنظرية الأولى، تلك التي تظهر في مستوى التوازن النفسي لدى الأفراد الخاضعين لتأثيرها ومدى قدرتهم على تجاوز خيالاتها وذكرياتها؛ كما التي تظهر في أحلامهم على شكل كوابيس وحزمة ذكريات وصور موجعة، وإذا ما نظرنا لحال السوريين المدنيين الذين عاشوا القصف العشوائي وصور القتلى والأشلاء وممزقي الأطراف من الأهل والعائلة والحالات التي تحول فيها الطفل إلى جريح أو معاق دون أن يعي لماذا، وتحولت الأم إلى مسعفة لأطفالها أو مشيعة لجثثهم، فماذا يمكن أن ينتج من نظريات وتحليلات لدى مراكز البحث والدراسات؟

وفي تواصل مع أصدقاء ومثقفين يقطنون بلادا آمنة في أوروبا بعيدة عن أجهزة الأمن وعسكرها صرح الكثير منهم -ومنهم كاتب هذه السطور الذي كان معتقلا- أن كثيرا من كوابيس المخابرات والاعتقال والحصار والوقوع في فخاخ العسكر تراودهم أكثر من مرة في أحلامهم.

لقد قفزت تلك الدراسات والأبحاث الجارية في المستوى المنظور على “صدمة القذيفة” أو اضطراب مابعد الصدمة، ولعلنا نتلمس صدمة أخرى حقيقية هي ليست حديث عواطف ومشردين أو مغتربين وهي لدى المثقف أو الإنسان العربي الذي عول على عدل هذا العالم وقيمه ومنظوماته الأخلاقية التي صدع بها الرؤوس، وهيئات الأمم، يمكن تسميتها صدمة الحرب أو الانكشاف لضمير هذا العالم المثقوب، إذ إن صدمة القذيفة عاشها الجند المنتصرون والخاسرون في تلك الحروب على ضفتيها، لكن صدمة الحرب تتجلى لدى السوريين الذين تبنوا الثورة؛ وإن كانوا في الطرف الآخر من العالم ولم يشهدوا شيئا من عنفها بعد تعويلهم على دول وقوى خذلت ثورة السوريين إن لم تحاربهم، تلك الصدمة التي انتقلت في الواقع إلى إحدى حالتين يمكن رصدهما إما انحسار الأنشطة من جماعية تحت أهداف وطنية إلى مشاريع صغيرة وفردية لحفظ العائلة وتأثيث العالم الجيد بقليل من القبول والتأقلم مع غرق كبير في اللاجدوى، أو إلى الذهاب إلى أن هذا العالم لا يهتم بالشرق ويستكثر عليه الحرية كما قال د. برهان غليون في كتابه عطب الذات، وقد يذهب هذا الاتجاه نحو توكيد فكرة تصل إلى أن تكون إحدى المسلَّمات لدى الكثيرين ممن عانوا خذلان العالم لهم واعتبار أن السوريين حاربوا الأسد فحاربهم العالم كله، بكل ما تحمله هذه الفكرة من تأطير لأغلب الأفكار التي يمكن أن تصدر عنه ثقافيا وسياسيا، وإضمار عداء حقيقي نتيجة صدمة انكشاف حقيقة الدول على مصالحها دون اعتبار لحقوق الإنسان وشعاراتها البراقة، تلك الصدمة التي مازال الكثير من الدراسين يضعها في إطار صدمة الحضارة رغم خروجها عن هذا الإطار بسبب طيف الحمولات الكثيرة المسببة أو المرافقة لأعراضها، والتي لا يمكن لمؤسسة بحثية أن تصل لحقيقتها مالم تدرسها مرفقة بدراسة حزمة الأسباب والدوافع المؤسسة لها.

قبالة كل هذا الركام العالمي وانشغال العالم بثقب الأوزون بينما يفكر السوري بصدمة ثقب الضمير العالمي، وأمام حرب حقيقية على الأرض عانينا خسارتها عسكريا، نتلمس كسبا حقيقيا للثورة عبر جيل من الأطفال كبروا تحت القصف كتلك الطفلة التي التقت بها مذيعة النظام إبان دخول ميلشياته إلى درايا وطلبت منها المذيعة أن تشكر الأسد فرفضت أمام الكاميرا وشاهدها الجميع، أو ذاك الأب السوري الذي رآه الكثيرون في فيديو تدريبه لابنته على الضحك كلما سقطت قذيفة بالجوار، ليثبتوا أن حق الحرية والمقاومة حق يستعصي على كل حروب العالم أن تكتمه.

المصـــدر

المزيد
من المقالات