هل كان قرار سقوط حلب قرارًا تركيًا ضمن صفقة تأمين مناطق نفوذٍ لها في الشمال السوري أم أنّ الدور التركي اقتصر على تأمين خروج من تبقى في مدينةٍ ساقطةٍ حكمًا؟
هل بغي بعض الفصائل على بعضها بدون أسبابٍ منطقيةٍ قُبيل سقوط حلب بقليل كان بهدف تسريع هذا السقوط أم مجرد محاولةٍ للخروج بأكبر المكاسب من المدينة الساقطة حكمًا؟
وهل الإجراءات للخروج من المدينة بدأت قبل فشل معركة فكِّ الحصار أم بعدها؟
ستبقى هذه الأسئلة المتعلقة بسقوط حلب بدونِ أجوبةٍ قطعيةٍ في هذه المقالة، لعلَّ المُطلعين على خفايا الأمور يفندونها لاحقًا نفيًا أو إثباتًا. لكن سأحاول في هذه المقالة سبر بعض الأسباب التي قدّ تدفع للتسرع بالحكم بوقوع الخيانات باعتبارها سببًا أوحد وسأقدم شهادتي عن بعض جوانب نجاح الثورة في حلب.
فوبيا الخيانة
عقب كلّ هزيمةٍ تصدع رؤوسنا ادِّعاءات الخيانة، لكن ليس بالخيانة دائمًا تسقط المدن وتُخسر المعارك.
تعميم بعض الحقائق وتصويرها كما لو أنّها الحق المبين إحدى أكبر مثالب كُتّاب التاريخ. هل حدوث بعض الخيانات وبغض النّظر عن مدى مصداقية أي اثباتٍ أو نفيٍ لها كان كافيًا للتسبب بسقوط حلب؟
لو كانت الصفقات والخيانة السبب وراء سقوط حلب لماذا هدرت روسيا كل تلك القنابل والصواريخ؟، لماذا زادت حرجها الدولي باستهداف جميع المشافي ومراكز الدفاع المدني ولجأت لقنابل الغازات السامة؟، ولماذا لم تتمكن من السيطرة على الأحياء المحررة إلا بعد اتباع سياسة الأرض المحروقة فلم يبقَ أي مبنيٍ إلا وطاله القصف مراتٍ ومراتٍ؟
بعض الفصائل لطالما خسرت نقاطها لتأتي مؤازراتٌ من فصائل أخرى لتستعيد النقاط ولم يكن السبب الخيانة، وإنّما عدم كفاءة عناصر تلك الفصائل وضعف أو انعدام الحس الجهادي أو الثوري لدى كثيرٍ منهم. يمكن ذكر بعض الحالات التي كثر الكلام عنها كحالات خيانة بسبب بقائها بمناطقها التي سيطر عليها النظام بينما كانت في حقيقة الأمر استسلامًا وانتهى بهم المطاف في سجون النظام، بينما يوجد حالات أخرى كانت تنشط باعتبارهم عملاء للنّظام ولم يثبت أنّ أيًّا منهم كانوا بمواقع اتخاذ القرارات المصيرية في حلب المحررة، وعدم إثبات الشيء لا يعني نفيه بالضرورة.
بعض النفوس تجد السكينة بترويج خيانةٍ تجبُّ تقصيرها وتخاذلها ولعلَّ الإصرار على أنّ الخيانة هي السبب يكون صك براءةٍ وتبريرًا لتقاعس الكثيرين عن سد ثغورٍ كان بإمكانهم سدها. بل لعلَّ فوبيا الخيانة تُظهر الخوالف أصحاب رأيٍ وحكمةٍ جنبتهم السير في معركةٍ خاسرةٍ، خاسرةٍ لا لضعف إمكاناتٍ أو خللٍ بميزان القوى وإنما فقط بسبب الخيانة المسوّقة باعتبارها قدرًا حتمي الوقوع.
مما لم تنجح الثورة بالتغلّب عليه التنطُّع، والتنطُّع لغةً هو وضع الشِدة في غير مكانها. عانت الثورة من نوعين من التنطع، تنطع ثوري وتنطع المنهج. الطرفان يصدّران للواجهة شعارات تصادمية وإقصائية للمُخالف. تباينات أنصار الثورة ليست محصورة بالتنطُّع الثوري وتنطُّع المنهج، لكن الجهود المبذولة من كل طرفٍ لشيطنة الطرف الآخر أنهكت الثورة.
من أبرز الأمثلة على التمترس خلف الشعارات لإقصاء الآخر الجدل المتعلق بشعار الديموقراطية بين من يقدسها وبين من يراها كفرًا. ولو أراد الطرفان إصلاحًا لقبلا بديموقراطيةٍ مشروطةٍ بأن لا تتعارض نتائجها مع الشرع. لعلَّ قُطبيّ التنطُّع هذان هما المصدر الرئيس لفوبيا الخيانة فكل طرفٍ يبخس الآخر حقه ويحمّله تبعات كل هزيمةٍ وينساق جمهور الثورة خلفهما. فتبقى أسباب الهزائم الحقيقية بمنأى عن البحث والتدارك. ويعمُّ شعور اليأس المبنيِّ على الهزيمة النفسية أولًا.
سقوط حلب
في أحد الوثائقيات المصورة ذكر الفاروق أبو بكر مسؤول لجنة التفاوض عن حلب أنَّ إمكانية الصمود كان من الممكن أن تكون أكبر لو أنَّنا اعتنينا أكثر بالتحصينات العسكرية واستطعنا تأمين أماكن محميّة للمستشفيات، لو وحدنا الكلمة العسكرية والقرار العسكري في الداخل، لو منعنا أيَّ اقتتالٍ حصل.
لربما أهم ما ذكره الفاروق هنا هو الإطار الذي استخدمه للتعداد، كيف كان يمكن أن تصمد حلب أكثر وليس كيف يمكن أن نكسر الحصار أو أن نحرر الجزء الخاضع لسيطرة النظام.
تعوّدنا أن نتجاهل السياق ولا نأخذ بعين الاعتبار إلا المشهد الأخير. فكيف كان آخر مشهدٍ في حلب؟
بقاء مشفىً وحيد يملؤ ممراته المصابون بعد أن غصَّت بهم الغُرف، السلع الغذائية فاحشة الغلاء فلا رقابة أو تنظيم للأسواق في ظل الحصار، والفصائل المقاتلة بين ترهل وانقسام.
لكنَّ سقوط حلب لا يمكن عزله عن سياقه، عملٌ عسكريٌ طويلٌ للنظام أثمر حصارًا للمدينة، نجاح النظام باستعادة الثغرة التي أحدثها جيش الفتح وفرض الحصار مجددًا، توقيتٌ سيءٌ لبدء عمليات درع الفرات خلال محاولة فك الحصار عن حلب، إرهاصات عملية اجتثاث فصيل جند الأقصى كفصيلٍ داعشيٍ خلال مشاركته في عملية تحرير مدينة حماة من النظام، فشل المعركة الثانية لفك الحصار بعد استنزاف جيش الفتح وانهيار المعنويات في الداخل المحاصر بسبب غياب أي بصيص أمل بعملٍ آخر لفك الحصار، اشتداد أثر الحصار واستهداف المشافي وخروجها تباعًا عن الخدمة.
لعلَّ من الخوض في الغيب الجزم بأن سقوط حلب كان حتميًا، لكنَّ ميزان القوى ليس في صالح أي منطقةٍ محررةٍ يجتمع عليها طيران روسيا ومليشيات إيران وقرار بالاحتلال أيًا تكن التكلفة. في هذا الإطار يمكن فهم كلام الفاروق عن ما كان يمكن عمله لصمودٍ أطولٍ وليس لنصرٍ.
انتصار الثورة في حلب
لعلَّ السبب وراء التخبط وتقاذف التهم بالتقصير والخيانة يعود لغياب تصورٍ واضحٍ لما يمكن أن تحققه هذه المرحلة من الثورة. جربت تونس ومصر وليبيا واليمن كل ما يتصوره السوريون نصرًا لثورتهم بدءًا من السلمية ومحاكمة الرئيس مرورًا بتحرير المدن والإطاحة بالرئيس ومعاقبته بدون محاكمةٍ. فهل انتصرت تلك الثورات؟
أليست الثورة في المقام الأول تغيرًا فكريًا للمجتمع تنجح بنجاح الفئة الثائرة بتعميم التغيير على باقي المجتمع، ألم تثبت محاولات الثورة في باقي البلدان العربية أن هذا التغيير فيها قد فشل بالرغم من تبديل الأنظمة ومعاقبة الطغاة؟ ألم تنجح الثورات المضادة بإعادة إنتاج أنظمة الفساد؟ وهل طول عمر الثورة السورية مؤشر فشلٍ أم مؤشر نجاحٍ؟
الفوضى المرافقة للثورة جعلت الناس تعتقد بأن طول الثورة بدون حسم دليل فشلٍ، ولست واثقًا فيما إذا سجّل التاريخ أي ثوراتٍ تتصف بالسرعة والنجاح. على أيّة حالٍ ما كان لثورةٍ قصيرةٍ أن تنجح في ظل ظروف المجتمع السوري بما اعتراه من إفسادٍ منهجيٍ على مدى نحو نصف قرنٍ رسّخ مناطقيّةً بغيضةً وأدمغةً مغسولةً بشعاراتٍ جوفاءٍ خادعةٍ وجهلًا دينيًّا مركّبًا ونخبويّةً مريضةً. الواقع الدولي وفق شريعة الفيتو لم يساعد أيضًا بتقصير عمر الثورة السوريّة ولعلَّ الانحراف الديني أيضًا بدرجاته المختلفة الذي وظّفته الأنظمة في الجزائر والعراق وسوريا بشكلٍ واضحٍ كان شرًا لا يمكن تجنبه بل لعلَّ التاريخ يسجّل للثورة السوريّة مواجهتها لهذا الفكر والانتصار عليه كإنجازٍ لا يقل أهميةً عن إنجاز إسقاط النظام ومن ثم مواجهة إيران وروسيا باعتبارهما دول احتلالٍ. ربّما يذكر التاريخ هذه الإنجازات الكبيرة إن تحققت فعلًا ويهمل التاريخ التفاصيل التي تُحقق النصر. قد يذكر التاريخ سقوط حلب بوصفها هزيمةً للثورة ويتجاهل كيف انتصرت الثورة في حلب.
نجاح الثورة في حلب تجسد أولًا بنجاح التعليم فلم تبقى مدرسةٌ واحدةٌ تحت إشراف النظام وقدمت كثيرٌ من المدارس مستوىً علميًا وأخلاقيًا يفوق بمراحل مدارس النظام وقد يشكل الطّلاب الذين درسوا لسنين عديدةٍ في تلك المدارس نواةً لمرحلةٍ جديدةٍ من الثورة.
كما نجحت المجالس المحلية والمنظمات داخل حلب بالعمل بدون وصايةٍ فصائليةٍ. الأمر الذي يشكّل تحديًا كبيرًا في باقي المناطق المحررة. كما قامت مؤسساتٌ خدميةٌ تجنّبت البيروقراطية وقدمت خدماتها حتى في أقسى الظروف.
حرية الصحافة ونجاحها وجهٌ آخرٌ لنجاح الثورة، فالصحف ووكالات الأخبار التي أنتجتها حلب المحررة بقيت قائمةً بعد سقوط حلب وساهمت ببث الحياة الإعلامية في باقي المناطق المحررة. أليست الثورة السوريّة هي ثورةٌ لأجل الحريّة في المقام الأول؟ وهل هناك أبلغ من الصحافة مقياسًا؟ نجحت حلب أيضًا باستقطاب اهتمام الصحافة العالمية بشكلٍ غير مسبوقٍ بالرَّغم من تعذّر وجود مندوبين لتلك الصحافة داخل المناطق المحررة. عشرات التقارير والمقالات أسبوعيًا تكلّمت عن تفاصيلٍ كثيرةٍ في حلب المحررة على امتداد شهورٍ. في حين أنّ كثيرًا من المدن العريقة مرّت بظروفٍ صعبةٍ جدًا ولم تلقَ اهتمامًا مشابهًا كمًّا ونوعًا. هذا التميز الإعلامي لا يمكن فصله عن وجود هامشٍ جيدٍ للحريات في حلب وتواجد كوادرٍ وأصحاب إمكاناتٍ حرفيةٍ وعلميةٍ شابة استفادت من المؤسسات التدريبية والتعليمية الثورية. وكذلك جهودٌ بذلها سوريون مناصرون للثورة مستقرون في أوربا وأمريكا.
ما تمَّ من نجاحٍ للثورة في حلب كان نتاج أبناء الحارات المحررة فيها كبستان القصر والكلاسة وحلب القديمة، وشباب الحارات التي بقيت تحت سيطرة النظام ولكنهم تركوها وتبعوا الحريّة وعاشوا في ظلها وساهموا بترسيخها. ساهم أيضًا بنجاح الثورة في حلب ناشطون من ريف حلب وإدلب وحماة ودرعا وبعض فلسطينيي سوريا ممن اختاروا العيش في حلب المحررة وتركوا بصمتهم فيها. هؤلاء الذين عاشوا في حلب وذاقوا رحيق الثورة بالرَّغم من كل الألم قصفًا وتهجيرًا قد لا يعنيهم ما سيكتبه التاريخ. إلا أنّه يقع على عاتقهم توثيق وتعميم جوانب النصر التي لا تقلُّ أهمّيّةً عن تشخيص مواطن التقصير والضعف، لعلّ المراحل القادمة للثورة تكون على بصيرةٍ.