المحتوى
مقدمة
توازن الهوية قبل الانتفاضة: موازنة التناقضات؟
انهيار في توازن الهوية خلال الانتفاضة؟
الخاتمة
الملاحق
المراجع
مقدمة
كانت نزعات العروبة والسوريّة والإسلاموية هي المكونات الأقدم والأكثر ديمومة لتوازن الهويّة في سورية. طوال ما يقرب من خمسة وستين عامًا، لم يشهد توازن الهوية أي تحوّلٍ جذري. وعلى الرغم من تعرضه لتغييرات مختلفة في العقدين الأولين من تاريخ سورية، فقد تمتّع بدرجة نسبية من الاستقرار في إبّان حكم الأسد. لكن تداعيات الانتفاضة السورية قلبت هذا التوازن، وغيّرت ميزان القوى بين مكوناته. تُلقي هذه الدراسة بعض الضوء على عملية إعادة بناء توازن الهوية التي بدأتها الانتفاضة السورية. يقدّم الجزء الأول من هذا المقال سياقًا تاريخيًا لتوازن الهوية في سورية الحديثة، ويحلّل الجزء الثاني التحوّل في هذا التوازن خلال الانتفاضة السورية. وتركّز الدراسة على خطابات النظام السوري، وكذلك على خطابات السوريين المناهضين للأسد والمؤيدين له. وتستند ادعاءات الدراسة بشكل أساسي إلى العمل الميداني الذي قامت به الكاتبة في سورية في أثناء الانتفاضة.
توازن الهوية قبل الانتفاضة: موازنة التناقضات
قامت سورية الحالية نتيجة لعبة سياسية لعبتها القوى العظمى في العالم، وهي لعبة بلغت ذروتها من خلال فرض حدود سياسية على مجتمع غير متجانس. لذلك، لم يكن إنشاء الدولة السورية مصحوبًا بإحساس قويّ بالهوية الوطنية، ولا بشعور بالسيادة القومية/ الانتماء إلى أمّة، حيث ترافق إنشاؤها مع نمو الطائفية والتشرذم والكراهية المتبادلة بين جماعات الهوية السورية. في هذا السياق، تنافست ثلاث هويات رئيسة على الهيمنة. سعت القومية العربية (أو “العروبة القديمة”) للانتماء إلى الأمة العربية؛ وشجعت القومية السورية على إنشاء “سوريا الكبرى”، التي تشمل لبنان والأردن وفلسطين. وأخيرًا، سعت النزعة الإسلاموية [حركة سياسية تدعو إلى وحدة المسلمين تحت دولة أو دولة إسلامية واحدة -غالبًا خلافة- أو منظمة دولية ذات مبادئ إسلامية] إلى الارتباط/ التوحّد مع الأمة الإسلامية. عند تولّي الرئيس السابق حافظ الأسد منصبه عام 1971، حاول -وهو خبير في فن السياسة الواقعية realpolitik- أن يوازن بين هذه الهويات الثلاث، وبناء هوية وطنية سورية تسمح لتلك الهويات بالتداخل. في ما يتعلق بـ “العروبة القديمة”، كانت سياسات الأسد تهدف إلى التلاعب بها/ التحايل عليها، تجاه ما يسميه كريستوفر فيليبس (2012) “الهوية العربية اليومية” ، حيث أعاد الأسد إنتاج العروبة على أنها هوية شاملة فوق وطنية، توحّد جماعات الهوية المختلفة، مع استثناء السوريين غير العرب. ومن ناحية أخرى، سعى الأسد إلى تعزيز الشعور بالارتباط الوطني لدى السكان بالدولة الإقليمية السورية، مع التأكيد على أهميّة البقاء تحت المظلة الأوسع للقومية العربية. بالتوازي مع ذلك، بالاعتماد على مقاربات القوة الناعمة والقوة الصلبة، شكّل الأسد تحالفًا مع كل من البرجوازية السنيّة ومع الفلاحين، محاولًا التأكيد أن الإسلام هو نواة الهوية السورية. وقد مكنته هذه الخطوة من تضمين الأكراد كسوريين غير عرب. ومع ذلك، اعتمدت صيغة الأسد لبناء الدولة بشكل أساسي على مفهوم العصبية العلوية (“الشعور الجماعي”)، الذي كان يهدف من خلاله إلى تشكيل نخبة متماسكة، تتولى قيادة مناصب رفيعة المستوى في المؤسسات السياسية والعسكرية. على الرغم من أن العصبية العلوية تشكل العمود الفقري لنظام الأسد، فإن الأسد لم ينخرط في أي خطاب علوي مباشر. ومن دون أن يفعل ذلك علنًا، استغلّ بمهارةٍ الهوية العلوية، وشجّع العلويين على عدِّ النظام ملكًا لهم. بعد ذلك، قوَّت العصبية العلوية ضمنيًا الهويات الطائفية على الهويات العربية والسورية.
في حزيران/ يونيو 2000، ورث بشار الأسد الرئاسة. واتبع خُطا والده في إعادة إنتاج العروبة كهوية فوق الدولة، توحّد تحتها السوريون من جميع الجماعات الدينية، بشعور من الفخر. في الواقع، يبدو أن الدور المحوري لسورية في ما يسمى “محور المقاومة” (المكوّن من سورية وإيران وحزب الله وحماس) قد عزز الهوية العربية. استغل خطاب النظام السوري الأحداثَ الإقليمية والدولية؛ مثل الحرب الأنجلو-أميركية على العراق في عام 2003، وحرب حزب الله وإسرائيل في عام 2006، والحرب الإسرائيلية على غزة في عام 2008. واستخدم النظام هذه الأحداث لإعادة إنتاج الهوية العربية في وقت واحد، كهوية فوق الدولة، ولتعزيز هوية الدولة. يمكن القول إن هذه الخطوة قد أثرت في شعور السوريين الجماعي بالفخر بهويتهم الوطنية/ القومية، في ما يتعلق بنظرائهم العراقيين واللبنانيين والفلسطينيين. يتذكر محمود (27 عامًا) السوري تلك الأيام: “نحن [السوريين] كنّا القلب النابض الحقيقي للعروبة، وكنّا عربًا أكثر من الآخرين [في العالم العربي]؛ ساعدنا العراقيين واللبنانيين والفلسطينيين الذين قدموا إلى سورية، بينما خذلهم باقي العرب”.
بالتوازي مع تحقيق التوازن بين نزعتي العروبة والسورية، سعى بشار إلى تعزيز الهوية الإسلامية من خلال رعاية الإسلام المعتدل، الذي سعى من خلاله إلى التوفيق بين الحركات الإسلامية، وتعزيز الوضع الراهن الذي صنعه والده مع الأطراف السنّية . ولتحقيق أهدافه، قام بشار بإجراءات عدة؛ أطلق العنان للحركات الصوفية، وغضّ الطرف عن “القبيسيات”، وهي مجموعة من النساء السنيّات أسستها منيرة القبيسي في دمشق خلال الستينيات، للترويج لإسلام غير سياسي يركّز على التقوى الشخصية. وإضافة إلى ذلك، عزَم الأسد الابن تقديم نفسه كمُسلم صالح في نظر السنّة؛ فكان، طوال فترة رئاسته، يحضر الاحتفالات الدينية بانتظام، وعلى عكس والده، كان يشهد تقديم الرموز السنية في الاحتفال بالمناسبات الدينية. ودافع بشار عن مشروع تحرير اقتصادي (لبرلة)، أدى إلى نتائج عكسية عن غير قصد على قضية الهوية، وأضر بالتوازن الذي بناه حافظ الأسد بين جماعات الهوية. في الواقع، كان المشروع الاقتصادي الليبرالي الجديد لبشار موجّهًا لصالح المدن الكبرى، مثل دمشق وحلب، مع إهمال الظروف الاجتماعية والاقتصادية للمدن والبلدات الأخرى، مثل درعا وبانياس، حيث أدى ذلك لاحقًا إلى توسيع الفجوات الاجتماعية والاقتصادية، وهدم العقد الاجتماعي الذي أقامه حافظ الأسد مع العمال والفلاحين وأفراد الطبقة الريفية السنّة. ومن ناحية أخرى، تبنّى الأسد مقاربة متناقضة حرّض فيها الإسلاميين ضد العلمانيين، والسلفيين ضد الصوفيين، لتحقيق مكاسب سياسية واقعية realpolitik، معتمدًا طوال الوقت على قوة العصبية العلوية. وعلى الرغم من أن الخطاب الرسمي لبشار الأسد أيّدَ القومية السورية والمظلة الأوسع للعروبة، فإن العصبية العلوية بقيت في بؤرة النظام. وأدى هذا إلى نزع الشرعية عن توازن الهوية في نظر كثيرين من السنّة، ولا سيّما سكان المناطق الريفية المحرومة.
في هذا السياق، نجحت إستراتيجيات الموازنة التي اتبعها النظام الأسدي لنحو أربعة عقود. ومع ذلك، فقد ثبت أن التداعيات طويلة المدى لخططهم هي سقوط الأمة/ الدولة، وهو ما أدى إلى قلب توازن الهوية والارتداد على سلالة الأسد وعلى البلد نفسه.
انهيار في توازن الهوية خلال الانتفاضة؟
اندلعت الانتفاضة السورية في آذار/ مارس 2011، باستلهامٍ مما يسمى “الربيع العربي”. على الرغم من أن جذور الانتفاضة كانت في حركة سلمية سعت لتحقيق العدالة الاجتماعية، فإنها سرعان ما تحولت إلى صراع شرس على السلطة، بين مجموعات كثيرة، كانت الهوية لها بمثابة سلاح قوي. يمكن للمرء أن يجادل بأن الهوية العربية لعبت في البداية دورًا في تحفيز السوريين على النزول إلى الشوارع، حيث كانوا يشاهدون إخوانهم العرب قبل أربعة أشهر، وهم يحتجون ضد حكام تونس ومصر وليبيا واليمن. ومع ذلك، يبدو أن الفصل السوري من الربيع العربي يغيّر/ يؤرجح ميزان الهوية؛ الهوية العربية بكونها هوية فوق وطنية صلبة تتضاءل بمعدل متسارع جدًا (أُسّي) بسبب نمو الهويات السورية والإسلامية. بعد مدة وجيزة من اندلاع الانتفاضة، أكد خطاب النظام السوري على خيانة الدول العربية لسورية التي دعمت التمرد، وصوّرت هذه الدول العربية على أنها أعداء صريحين. وبالفعل، تزامن الخطاب الرسمي مع تعليق عضوية سورية في جامعة الدول العربية، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، مع تصاعد الخطاب المناهض للأسد في بعض الدول العربية، مثل قطر والمملكة العربية السعودية. وعلى الرغم من أن سورية استمرت في الترويج لنفسها كحامية للمصالح العربية فيما يتعلق بالعدو الإسرائيلي، كان الخطاب الذي يستخدمه النظام السوري يهدف إلى تعزيز القومية السورية. وصف الخطاب الدولَ العربية المناهضة للأسد بأنها خونة ومتآمرين. وإضافة إلى ذلك، سمَّى جامعة الدول العربية بالجامعة العبرية. كما اعتمد الخطاب الرسمي للنظام بشكل كبير على استخدام المصطلحات القومية: السوريون، والأمة السورية، والسيادة السورية، والإرادة السورية. بالإضافة إلى ذلك، بدأ عدد لا يحصى من المحطات الإذاعية التي تسيطر عليها الدولة، مثل نينار إف إم (Ninar FM)، وشام إف إم (Sham FM)، نشراتهما الإخبارية بعبارات مثل “هنا سورية”، أو “عاشت سورية”. وبصورة مشابهة، بثت القنوات التلفزيونية الحكومية السورية بشكل متكرر مقاطع تعيد إلى الأذهان التاريخ السوري. ومن الأمثلة البارزة على هذه المقاطع، مقطع (فيديو) بعنوان “سورية حكاية لا تنتهي”، يركز على الرموز الوطنية، ولا سيما علم سورية ومعالمها التاريخية. وإضافة إلى ذلك، خلال الانتفاضة، أنتِجت وبُثت كثيرٌ من الأغاني في وسائل إعلام الدولة، وكلها ركزت على القومية السورية، ولم تذكر أي سمات للأيديولوجية العربية. ومن الأمثلة على ذلك أغنية اسمها “سورية المجد”، نقتطف منها باختصار:
“نحن ولادك سورية المجد، نحن ولادك سورية أب عن جد، بالروح نفدي ترابك لو جدّ الجد، نحن ولادك سورية الله حاميك […] سورية؛ المجد” .
ومن المثير للاهتمام أن مقطع (فيديو) الخاص بهذه الأغنية (الذي يُبَث باستمرار على قنوات التلفزيون الحكومية، ويتداوله السوريون على وسائل التواصل الاجتماعي) يشير صراحةً إلى التغيير في ميزان الهوية؛ ويظهر مظلة على ألوان العلم السوري، وفي وسطها كلمة عربية تقول “سوري”. وتحت هذه المظلة، يوجد نص مكتوب عليه: عربي، كردي، درزي، مسيحي، سني: علوي: إسماعيلي: شيعي: آشوري وسرياني. والمثال الثاني أغنية للفنانة السورية البارزة ميادة الحناوي، عنوانها “يا شام”. صراحةً، تروج كلمات الأغنية ومقاطع (فيديو) للهويات الدينية السورية، حيث تركز على العناصر الرمزية الإسلامية والمسيحية (الكنائس والصليب؛ المساجد والقرآن) جنبًا إلى جنب، مع المعالم السورية وصور من الفولكلور. لا يوجد حتى تلميح غامض لأي شيء يحيط بالهوية العربية. وفي هذا السياق، أطلق التلفزيون السوري الرسمي حملة سمّاها “تاريخنا”، وبرنامج مسابقة بعنوان “سورية؛ تاريخ وحضارة”. وكلاهما يشير إلى تاريخ سورية الحديث ورموزها وشخصياتها الوطنية.
بالتوازي مع خطاب النظام هذا، فإن الخطاب الدائر على مستوى الجماهير يعبّر عن الاستياء من الدول العربية المناهضة للأسد. ودلّت على ذلك كثير من الشعارات التي رُددت خلال المسيرات المؤيدة للأسد. مثالان هما “يلي ما بصفّق، أمّه قطرية”، و”يا عرب، يا خونة”). غنى متظاهرون موالون للأسد، وهو يلوّحون بالعلم السوري ويرفعون صور الأسد، تلك الأغاني والشعارات. وعندما سُئِل أحد هؤلاء المتظاهرين عن سبب معارضته لإخوانه العرب، صرخ: “هؤلاء الخونة [إشارة إلى الدول العربية المناهضة للأسد] الذين سمّيناهم ذات مرة (الدول الشقيقة) طعنوا السوريين في ظهورهم؛ لكننا [السوريين] سننتصر”.
على الرغم من أن فصائل المعارضة السياسية (ممثلة بالمجلس الوطني السوري ثم الائتلاف الوطني السوري لاحقًا) والفصائل العسكرية (ممثلة في الجيش السوري الحر وبعض الميليشيات الإسلامية السورية) متحالفةٌ مع بعض الدول العربية -خاصة قطر والمملكة العربية السعودية- فإن خطاب السوريين المناهضين للأسد على الأرض انتقد الدول العربية، لفشلها في مساعدة المتمردين السوريين في إطاحة نظام الأسد. وبدا أن هؤلاء السوريين المناهضين للأسد أقلّ ارتباطًا بالهوية العربية؛ حيث يرون أن الدول العربية لم تقدّم المستوى المناسب من الدعم. وقد لخّص أحد السوريين المناهضين للأسد هذا المنظور:
“إن الدول العربية تسعى إلى تحقيق أهداف سياسية واقعية على حساب دمائنا. إنهم يدعمون فصائل معينة [في سورية] تخدم أجنداتهم، ويهدفون إلى إطالة أمد الصراع لتحقيق مآربهم الخاصة. الأمة العربية خذلتنا، وتراقب مذابح السوريين”.
ينعكس هذا الشعور من خلال شعار شعبي تكرر ترديده خلال المظاهرات المناهضة للأسد: “يا عرب خذلتونا”. علاوة على ذلك، هناك شعار شعبي، يظهر بشكل متناقض عند كل من السوريين المناهضين للأسد والمؤيدين له، وهو “سورية، نبكيكِ أو نبكي عروبتنا التي ولّت” . وإضافة إلى ذلك، ظهرت كثير من الرسوم الكاريكاتورية والروايات المصورة التي تنتقد الأيديولوجية العربية بين السوريين في مجتمع الإنترنت. أحد الأمثلة البليغة هو فيلم فكاهي، يُظهر رجلًا يرتدي زيًا عربيًا تقليديًا يشاهد برنامج عرب أيدول Arab Idol (مسابقة موسيقية عربية شعبية) على التلفزيون، وهو يدير ظهره لأخبار العنف في سورية التي تُذاع على شاشة تلفزيون خلفه. وهناك قصة مماثلة تسخر من القصيدة البارزة لساطع الحصري، أبو الأيديولوجية العربي*. تقول النسخة الأصلية من القصيدة: “بلاد العرب أوطاني، من الشام لبغدان، ومن نجد (في السعودية) إلى يمنٍ، ومن مصر إلى تطوان (في المغرب)”. بسخرية، يعرض المسلسل الهزلي سنفور قائلًا: “عن سورية .. بعدونا، وبـ لبنان .. همشونا، وبـ الأردن من البرد.. موتونا، وبـ العراق.. حاصرونا، أو بمصر.. ذلونا، وبالخليج ما استقبلونا! ويلاااا ننشد: “بلاد العرب، ما أوطاكِ!”.
بعد ذلك، كان الخطاب الذي استخدمته مختلف الجماعات المناهضة للأسد، ولا سيما العلمانية منها، يهدف إلى تعزيز القومية السورية من خلال التأكيد على الرموز الوطنية مثل الخريطة السورية والعلم السوري (الثوري)، مع تجاهل أي ارتباط بالهوية العربية. وبالفعل، كانت الخريطة السورية على ألوان العلم الثوري هي الرمز الرئيس لكثير من الجماعات المناهضة للأسد. وأكثر من ذلك، تبنّت كثير من الحركات المدنية والشبكات الخيرية وأدوات الاتصال أسماء وطنية، مثل سوريتنا؛ وهي مجلة أسبوعية، سورية المجد. قناة تلفزيونية، سوريات عبر الحدود؛ شبكة خيرية، وائتلاف شباب سورية الأحرار، حركة سياسية. وفي موازاة ذلك، عادة ما كان الناشطون العاملون على الأرض يعبّرون عن دعمهم للقومية السورية. أحد الأمثلة التقليدية هو شعار “الشعب السوري واحد”، وكان من أوائل الشعارات التي رددها المتمردون على الأرض. وثمة مثال واضح آخر هو لافتة رُفعت خلال مسيرة مناهضة للأسد، في ضواحي دمشق في نيسان/ أبريل 2012. أظهرت هذه اللافتة رسالة نصّها: “إذا كنا مسيحيين، فمنذ أكثر من 2000 عام؛ وإذا كنا مسلمين، فمنذ أكثر من 1400 عام، ولكننا سوريون منذ أكثر من 10000 عام).
بالتوازي مع هذا الخطاب الذي يؤكد على الهوية السورية، برزت الهوية الإسلامية، ولا سيما الهوية السنية. ومما لا شك فيه أن الهوية السنية كانت تكافح من أجل التمكين، منذ بداية الانتفاضة، وتحاول فرض نفسها على القومية العربية والقومية السورية. ومع ذلك، لا يمكن للمرء أن ينظر إلى الهوية السنية على أنها تدل على هوية موحدة، لأن إعادة إنتاج نسخ مختلفة من الهوية السنية، من المعتدلة إلى الراديكالية (الهويات الصوفية والسلفية والسلفية الجهادية، على التوالي)، هو سمة حاسمة في الانتفاضة السورية.
ومع ذلك، فإن كل هذه التيارات تتصارع من أجل الهيمنة على حساب تقليص العروبة والسورية. بل إن تصاعد العنف وسيطرة الميليشيات الإسلامية يتفاعل مع الانخراط الحميم لأعضاء الكتلة السنية (مثل السعودية وقطر وتركيا) وأعضاء “المحور الشيعي” (حزب الله وإيران وحكومة المالكي في العراق). ونتيجة لذلك، وُصِفت الانتفاضة بأنها حرب مقدسة شيعية ضد السنة. وسمح هذا للهوية الإسلامية بأن تتغلب على الهويات الوطنية وفوق الوطنية. دلّت شعارات كثيرة على هذا الاستقطاب الطائفي الذي أدى إلى تعزيز الهوية السنية. أحد الشعارات الشعبية المناهضة للشيعة هو: “لا إيران ولا حزب الله.. بدنا مسلم يخاف الله”. شعار آخر واسع الانتشار هو: “يا الله ما ‘لنا غيرك يا الله”. المثال الأخير هو لافتة رُفعِت خلال الاحتجاجات المناهضة للأسد، وتداولها مجتمعُ الإنترنت على نطاق واسع، تظهر كتابةً باللغة العربية لكلمة “يا عرب”، ويُمسح الحرف (ع) من كلمة (عـرب)، فتصير الكلمة (يا رب)، أي “الله”.
الخاتمة
بناءً على الرواية أعلاه، يمكن التأكيد أن ميزان القوى بين العروبة والسورية والإسلاموية تحوّل بسرعة، بعد اندلاع الانتفاضة السورية، فكلٌّ من هذه الهويات تتنافس من أجل التمكين والسيطرة والهيمنة. من ناحية أخرى، تتراجع “العروبة اليومية”، بسبب التكاثر “اليومي” لهويات الدولة الإسلامية والهويات الإسلامية. ومن ناحية أخرى، يعاد إنتاج الهوية الوطنية السورية كهوية شاملة للسوريين العلمانيين وغير المسلمين، في حين تزدهر الهوية الإسلامية، بكونها الهوية المهيمنة بين غالبية السنّة المناهضين للأسد؛ فأيُّ هذه الهويات لديها القوة اللازمة لإعادة التوازن؟! النتيجة لم تظهر بعد.