أطفال سوريون مهددون بِفقْدِ هويتِهم

ديسمبر 21, 2022

ريمون المعلولي

دراسات, مقالات

من الحقوق التي تتصدّر أولوية الاتفاقيات المعنيّة بالطفولة، الاعترافُ بوجود الطفل بصفته كيانًا إنسانيًا ينتمي إلى أسرة تضمّ والدَين/ أو أحدهما، مسؤولة عن تسجيل واقعة ولادته في دائرة الأحوال المدنية التي تمنحه شهادة الميلاد، تُدوَّن عليها بياناته: الاسم والنسبة وتاريخ الولادة ومكانها… إنها وثيقة تمثّل اعتراف الدولة بوجوده القانوني، وتُعدُّ الأساسَ لضمان حقوقه المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ويُعدُّ حرمان الطفل من حقه في الحصول على شهادةٍ تُثبت ميلاده معادلًا لحرمانه من الاعتراف بوجوده.

قبل الحرب، كانت مشكلة الحرمان من الجنسية السورية محددة ببعض الفئات، كحرمان الطفل الكردي من التسجيل، لتحدّره من والدَين مكتومي القيد، وكذلك حرمان أبناء المرأة السورية، حينما لا يكون زوجها سوريًا، كأن يكون فلسطيني الجنسية، مثلًا، لأن جنسية الطفل تُستمد من جنسية الأب، وفق القانون المدني السوري الذي لا يتيح للمرأة منح جنسيتها لطفلها. وهذه إحدى القضايا التي ناضلت المرأة من أجلها، من دون استجابة حتى اليوم.

خلال سنوات الحرب السورية، شبَّت مجموعات من الأطفال، تجاوز عددهم مليوني طفل[i]، حُرموا من حقوقهم المدنية بعضها أو كلّها، مثل حقّهم في الانتساب إلى أسرة/ عائلة، أو من حقّهم في تأكيد واقعة الولادة، ونيلهم شهادة الميلاد التي هي بمنزلة التعبير القانوني عن اعتراف الدولة بهم، كمواطنين، وحقّهم في اكتساب الجنسية.

إنهم أطفال موجودون في بعض البلدان المُضيفة للسوريين، باعتبارهم لاجئين، وكذلك موجودون في داخل سورية. وغالبًا ما ينتمي هؤلاء الأطفال إلى فئات اجتماعية ضعيفة، اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا… هي في الغالب ليست على علاقة حسنة مع “دولة النظام السوري”، الذي هو مسؤول -بصورة مباشرة وغير مباشرة- عن تأمين حقوقهم المدنية أو حرمانهم منها.

يُعدُّ سلوك دولة النظام السوري المعيق لبلوغ الأطفال حقّهم في التسجيل والهوية نوعًا من العقاب، أو استراتيجية لـ “ليّ ذراع” ذويهم والضغط عليهم من أجل انتزاع اعترافهم بشرعيته، من خلال شرعية مؤسساته المدنية. إنه سلوك مخالف بوضوح لجميع الالتزامات الدولية التي وقّعت عليها دولة النظام، وأعلنت مسؤوليتها عن إعمالها بموجب القوانين المحلية التي واءمتها مع شرعة حقوق الإنسان وحقوق الطفل واتفاقية سيدو الخاصة بمنع التميييز ضد المرأة.

وعندما يتضافر حرمان الطفل من حقّه في النسب والهوية/ الجنسية، مع باقي الحقوق المرتبطة بها: الاقتصادية والتعليمية والصحية… إلخ، ويقترن الحرمان من الانتماء بالتهميش الاقتصادي- الاجتماعي، حينها نفهم معنى صرخة الطفل المحتج: “من أنا؟ مَن أبي؟ ما جنسيتي؟!”.

من هم الأطفال المحرومون من النَسَب والجِنسية؟

إنهم مجموعات الأطفال التالية:

* أطفال وُلدوا لوالدين يتمتعان بالجنسية السورية، لكنهما لاجئان في إحدى بلدان الجوار: لبنان والأردن، وحين لا يتمكنان من إتمام عملية تسجيل أولادهما بعد الولادة، في الوقت المحدد للتسجيل[ii] يكون عليهما المرور بإجراءات مُحكمة ومُكلفة وطويلة، لإثبات قرابة الطفل من أجل المضي قدمًا في تسجيله.

في واقع الأمر، لا يتمكن من القيام بذلك إلا من لديهم إقامة قانونية، فضلًا عن توافر القدرة المالية، نظرًا لارتفاع قيمة الغرامات المالية.

ومن بين التحديات التي تواجه الأهل وتحول بينهم وبين الالتزام بالمواقيت المحددة لتسجيل أطفالهم، تبرز المشكلة الأمنية المتمثلة بعدم قدرتهم على مراجعة السفارات/ القنصليات السورية، في البلدان التي تستضيفهم كلاجئين، خوفًا من الاستفزازات أو من الاعتقال والترحيل إلى سورية، إذا كانوا معارضين ومطلوبين من الأجهزة الأمنية. فضلًا عن ارتفاع الكلفة المالية الواجب دفعها، كرسوم لاستخراج أوراق التسجيل، في وقتٍ تتدهور فيه أحوال اللاجئين في لبنان والأردن[iii] بالإضافة إلى الرشا التي يتم دفعها للسماسرة المتعاملين مع السفارات، ويمكن أن نُضيف، إلى التحديات المذكورة، مواقف بعض اللاجئين السوريين الرافضة لفكرة الاعتراف بسفارة النظام الذي ثاروا عليه.. إلخ.

ينسحب الأمر ذاته على السوريين الذين لجؤوا إلى تركيا، وأقاموا على أراضيها، من دون أن يتمكّنوا من الحصول على أوراق إقامة رسمية “كملك”، إذ لن يتمكنوا من تسجيل أطفالهم رسميًا. ويزداد أمرهم تعقيدًا، حين يكون زواجهم من دون تسجيل رسمي في تركيا، فهؤلاء مضطرون إلى تثبيت زواجهم أولًا، قبل أن يتمكنوا من تسجيل أطفالهم، وهم مضطرون إلى مراجعة القنصليات السورية هناك، مع ما يرافق ذلك من أخطار أمنية، وتكاليف مادية لا يقوى عليها كثيرون منهم، وسط ظروف اقتصادية ومعيشية متردية، ما يعني عدولهم أو تأجيلهم متابعة عمليات التسجيل الرسمي، الأمر الذي يؤدي إلى حرمان الأطفال من حقوقهم القانونية في الهوية، ويدفعهم سريعًا إلى سوق العمل في سن مبكرة.

* أطفال لوالدَين تزوّجا زواجًا عرفيًا (كتاب شيخ) غير مسجل في مكاتب الأحوال المدنية التابع لدولة النظام، وهو زواج غير معترف به قانونًا، ولذلك لن يتمكنا من تسجيل أطفالهم، إلا بعد إجراء عملية تثبيت زواجهما، ومن ثم يتم تسجيل أطفالهم بصورة قانونية.

ويعاني هؤلاء بسبب انعدام وجود مكاتب التسجيل المدني الرسمية في مناطقهم، نظرًا لخروج مؤسسات دولة النظام منها، في وقتٍ سادت فيه فوضى المرجعيات المتحكمة فيها، فلكلّ مرجعيةٍ (قوة أمر واقع) محاكمُها ومؤسساتها الخاصة، كما هو حال مناطق شمال غرب وشمال شرق سورية، في وقتٍ لم تتمكن المعارضة فيه من الحصول على اعتراف قانوني دولي بحقّها بإصدار وثائق أو حقها في تسجيل الواقعات الحيوية: ولادات ووفيات وزواج وطلاق.. إلخ

لقد تقطّعت السبل بمئات آلاف العائلات السورية في المناطق المذكورة، ولم يتمكنوا من تسجيل أولادهم رسميًا، وهم يعانون الأمرّين، حين يبلغ أولادهم مرحلة التقدم إلى امتحانات الشهادتين الإعدادية والثانوية، وفق امتحانات النظام.

* أطفال النساء السوريات المتزوجات من أزواج سوريين، بموجب عقود غير موثقة في سجلات دولة النظام، وذلك بسبب مقتل الأب وعدم تمكّن الزوجة من تثبيت زواجها، فالزوج لم يعد موجودًا، وبالتالي لا تتمكن من إثبات نسب طفلها، ولا من تسجيله، وبذلك سوف يبقى بلا نسب ولا هوية، إلا في حال إعلان المرأة/ الأم أن طفلها “مجهول الأب”، فيسجّل على اسم أمه، ويقيّد الأب مجهولًا (أي يُعدُّ الطفل لقيطًا)، وهذا ما ترفضه المرأة لنفسها ولطفلها، لذلك تقوم بعضهن بتسجيل أطفالهن على اسم والدها، على سبيل المثال، وعليه يصبح الطفل بمنزلة الأخ لها….

ومن نتائج هذه الواقعات، أنّ أجهزة النظام، من بعد دخول قواته إلى العديد من المناطق واستعادة سلطته عليها، وبخاصة تلك التي تعرضت لهجمات بالأسلحة الكيميائية كغوطة دمشق حين كانت تحت سلطة قوى معادية له، مارست عمليةَ تلاعب بخصوص أسباب وفاة الزوج أو الأب، وذلك بالضغط على أهل المتوفى لتقديم إفادة غير حقيقية لوفاته، مقابل الموافقة على تسهيل عملية مدنية معينة، كتثبيت زواج أو تسجيل أطفال.. وهكذا، تمت عمليات طمس حقائق عن أسباب وفيات أشخاص، كان النظام مسببًا لها[iv].

يدخل ضمن الفئة الثالثة أطفال أمّهات سوريات، تزوجن أو زُوّجْن من مقاتلين ينتمون إلى تنظيم (داعش) وفق عقود زواج غامضة، ففضلًا عن كون الأب ليس سوري الجنسية، غالبًا، يكون اسمه المسجل على عقد الزواج غير حقيقي، كـ “أبو فلان”، ويكون الشهود على عقد الزواج مقاتلين من التنظيم نفسه، وأسماؤهم غير حقيقية، وبعد رحيل المقاتلين أو قتلهم في المعارك، تقع الزوجات وأطفالهن ضحايا علاقة غامضة غير قانونية، وعندما تبحث المرأة عن زوجها أو عن بلده وجنسيته، فلن تجد سوى أسماء وهمية (حركية) لا عناوين لها.

تقيم زوجات مع أطفالهن، وكانت تربطهن علاقة زواج بمقاتلي (داعش)، في مخيّم (الهول) شمال شرق سورية، تحت سلطة “قوات سوريا الديمقراطية”، وسط ظروف بائسة جدًا، فهناك نحو 25 ألف طفل مع أمهاتهم، تتم تعبئتهم أيديولوجيًا على منهج (داعش)، على يد نساء شكّلن تنظيمًا سريًّا في المخيم، هدفُه متابعة التعبئة للأطفال، من خلال نشر الفكر التكفيري. وهذه ظاهرة خطيرة جدًا، إذا ما عرفنا أن بلدان المقاتلين المقتولين ترفض استرداد ما لها من زوجات وأطفال، لمقاتلين يحملون جنسيات تلك الدول!

خلاصة:

– لا يجوز لحكومة النظام الاستمرار في ابتزاز السوريين اللاجئين عبر سفاراتها وقنصلياتها، فعليها الكفّ عن الضغط عليهم، وعن تهديدهم حينما يعمدون إلى تثبيت واقعتي الزواج والولادات، فذلك حقّ كفلته الشرعة الدولية، خاصة أن الحكومة السورية سبق لها أن وقعت على الاتفاقيات والبرتوكولات الملحقة بها، وتعهدت بإعمال هذه الحقوق لكل السوريين من دون تمييز، وبخاصة اللاجئين منهم.

– لقد أضاعت هيئات المعارضة الرسمية حقوق السوريين الذين ادعت تمثيلهم، عبر فشلها في إيجاد مؤسسات وهيئات مدنية بديلة، فأوقعت ملايين السوريين في مشكلات خطيرة، وعلى رأسها حرمان أطفالهم من متابعة حياتهم بصورة طبيعية، من ناحية التسجيل والهوية وباقي الحقوق.

– لا بدّ من تعديل قانون الأحوال المدنية، لتمكين المرأة من بلوغ حقّها في منح جنسيتها لأطفالها، بكل الظروف، ويتطلب ذلك تغييرًا جوهريًا في فلسفة الدولة والمجتمع، وبناءه على أسس ديمقراطية خالية من التمييز على أيّ أساس، ومن ضمن ذلك التمييز على أساس الجندر.


[i] يبلغ عدد المحرومين من الجنسية 10 ملايين إنسان في العالم، منهم مليونا طفل سوري، أي خُمس المحرومين على مستوى العالم، علمًا بأن المحرومين من سورية هم أطفال، فيما محرومو العالم هم من الكبار والأطفال.

[ii] يُطلب من الآباء تسجيل أطفالهم في غضون عام واحد من الولادة.

[iii] 85 % من الأطفال السوريين في “المجتمعات المضيفة” في الأردن يعيشون تحت خط الفقر.

المزيد
من المقالات