في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، أطلقت الأمم المتحدة اللجنة الدستورية السورية، المؤلفة من 150 سوريًا، مقسمة بالتساوي بين المسؤولين المدعومين من الحكومة السورية، ومجموعات المعارضة المختلفة، والمجتمع المدني السوري. وقد عقدت اللجنة اجتماعها الخامس، في 25 كانون الثاني/ يناير الماضي. وعلى الرغم من إلحاح المبعوث الخاص للأمم المتحدة على البدء أخيرًا في “صياغة” دستور، فإن جولة جنيف الأخيرة هذه وصلت إلى طريق مسدود. الآن، تكثر الدعوات للتخلي عن العملية، من العاصمة السورية، ومن العواصم الغربية التي تستثمر سياسيًا وماليًا في اللجنة.
أمام الدول الداعمة لجهود الأمم المتحدة الآن، خياران: إما إجهاض نشاط اللجنة على الفور أو التهديد بذلك إذا استمرت بعدم التوصل لنتائج، وإما إنشاء آلية دبلوماسية جديدة (بالإضافة إلى عمل اللجنة أو بعد توقف عملها) تتعامل مع التفويضات الأساسية لقرار مجلس الأمن رقم 2254. ويجب عليها أيضًا الاعتراف، داخليًا وعلنيًا، بفشل روسيا في الوفاء بوعدها بتسهيل أداء اللجنة الدستورية، وهي عملية أصرّت على رعايتها.
يقدّم قرار مجلس الأمن 2254 سلسلة من الخطوات، تهدف جميعها إلى دفع الجهات الفاعلة نحو تسوية سياسية. وهي تشمل: تحقيق انتقال سياسي حقيقي، وفرض وقف إطلاق نار على مستوى البلاد، والقضاء على الإرهابيين، وتسهيل العودة الآمنة للاجئين، وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية، ووقف الهجمات على المدنيين، والإفراج عن المعتقلين، وبالطبع صياغة دستور وإجراء انتخابات حرّة ونزيهة. وبالنظر إلى أن عمل اللجنة لم يسفر عن أي من هذه الخطوات، أصبح من الواضح جيدًا أن اللجنة بحد ذاتها أصبحت مصدر إلهاء، ولم تعد خطوة فعلية إلى الأمام في السياق السوري.
من أجل إكمال المهمة بنجاح، يحتاج غير بيدرسون (مبعوث الأمم المتحدة الخاص لسورية) إلى الاعتماد على الجهات الفاعلة الملتزمة بتحقيق أهداف قرار مجلس الأمن رقم 2254. حيث إن استمرار العملية غير المثمرة يضرّ بصدقية الأمم المتحدة، التي -بسبب افتقارها إلى الإجماع في مجلس الأمن- تكافح بشدة للعب دور فعال في الصراع السوري. لهذا السبب، فإن إنشاء آلية دبلوماسية أكثر فاعلية -بالإضافة إلى اللجنة الدستورية أو من دونها- هو أمرٌ ملحّ. وسيمنع مجموعة آستانا -وهي اتفاقية عسكرية بين روسيا وإيران وتركيا، منفصلة عن قرار مجلس الأمن رقم 2254- من أن تصبح الاتفاقية الوحيدة القابلة للتطبيق منذ عام 2017.
لم تكن اللجنة الدستورية حلًا شاملًا البتة
كانت قيود اللجنة الدستورية واضحة منذ البداية، وكذلك عجزها عن حلّ جذور الانتفاضة السورية، ومن ضمنها الاعتقالات التعسفية التي تقوم بها الحكومة، وقتل المعارضين، والحكم المرعب، وتهجير الملايين، وعدم الاستعداد لتقديم تنازلات سياسية لمواطنيها. ويوجب ذلك الأمر التنفيذَ الكامل، لا الجزئي، لقرار مجلس الأمن رقم 2254. لكن هذه ليست المرة الأولى التي تحظى فيها موضوعات أخرى غير القضايا الأساسية بالصراع السوري، بالأولوية. على سبيل المثال، في عام 2015، أعطى كثيرون من المجتمع الدولي، من ضمنهم الولايات المتحدة، الأولوية للقضاء على الدولة الإسلامية في العراق وسورية (داعش). كان هذا مثالًا واضحًا على نموّ الانهيار السياسي والأمني في سورية الذي جذب الانتباه الكامل للمجتمع الدولي.
اليوم، أيضًا، استثمر المجتمع الدولي في اللجنة الدستورية، معتقدًا أنها ستضع دستورًا قبل الانتخابات الرئاسية التي ستراقبها الأمم المتحدة هذا الصيف. وبدلًا من التركيز على القضايا الأكثر إلحاحًا في قرار مجلس الأمن 2254، ومن بينها وقف الأعمال العدائية، وتقديم المساعدة في جميع أنحاء البلاد، وعودة اللاجئين؛ تحوّل الاهتمام إلى هدف لا يمكن تحقيقه بنجاحٍ إلا بالتوازي مع تسوية سياسية حقيقية. وثبت أن التركيز على الدستور وحده، في بلدٍ يُتجاهل فيه الدستور تمامًا، أمرٌ بلا جدوى. يمكن للدساتير أن تُحدث فرقًا حتى في السياقات غير الديمقراطية، لكن هذا يحتاج إلى جهة فاعلة تقوم بتقويم مصالح الجميع، ومنهم مواطنو الدولة، وتكون على استعداد للمساومة من أجل البقاء في السلطة. على النقيض من ذلك، رفضت الحكومة السورية المساومة، واختارت استخدام القوة في كل مرة.
فشل روسيا المتكرر
روسيا هي الراعي والمدافع الأساسي عن عملية اللجنة الدستورية. في الواقع، الرعاية الروسية هي التي أقنعت كثيرًا من السوريين وغير السوريين، المتشككين في اعتماد اللجنة كأول خطوة في قرار مجلس الأمن رقم 2254 لتحقيق تسوية سياسية، لدعم العملية.
كانت الفكرة أن الأمم المتحدة، إذا تمكنت من إشراك الحكومة السورية في مواضيع أقل تهديدًا مباشرًا لقبضتها على السلطة، فسوف تقتنع، تدريجيًا، بتقديم تنازلات أكثر أهمية في المستقبل. أو هكذا كان المنطق. وفرّت هذه العملية، إلى جانب زيادة العقوبات الأميركية والأوروبية على الحكومة السورية والشركات التابعة لها، فرصة لممارسة ضغوط حقيقية لمتابعة مطالبهم.
كان يُنظر إلى قدرة روسيا على الضغط على حكومة الأسد للحضور في البداية على أنها خطوة إيجابية. ولأول مرة، كان أعضاء من المجتمع المدني والمعارضة والمدعومين من الحكومة يتحاورون معًا في غرفة واحدة. كان حضور مجموعة المجتمع المدني على وجه الخصوص أمرًا جديدًا، حيث تم إشراكهم لأول مرة في أي عملية تفاوضية رسمية تدعمها الأمم المتحدة.
لكن سرعان ما اتضح أن “التنازلات” الحكومية ستنتهي بمجرد الحضور. خلال جولات المفاوضات الخمس، أصرّت كل من الحكومة السورية وروسيا على أن المحادثات يجب أن تتم “في سورية، بين السوريين فقط”، ودعت أعضاء اللجنة “للحضور إلى دمشق”. كان هذا الأمر بالطبع مستحيلًا، بالنظر إلى أن معارضي الأسد سيختفون بوصولهم إلى دمشق. وسرعان ما اتضح أن مشاركة الحكومة السورية كانت خدعة؛ فبدلًا من مناقشة القضايا الجوهرية أو صياغة الدستور، أمضى ممثلوها وقتهم في التهديد بسحب جنسية المعارضين “غير الموالين/ المشاغبين”.
كشفت عملية اللجنة الدستورية أخيرًا مدى الاختلاف والتباعد في كيفية تعريف موسكو وبقية أعضاء مجلس الأمن لـ “التقدّم”؛ فقد كذّب أخيرًا فشلُ اللجنة الدستورية في التوصل إلى نتائج الافتراض (الذي تتبناه الولايات المتحدة وحلفاؤها) القول بأن الطريق إلى دمشق يمرّ عبر موسكو.
يجادل البعض بأن روسيا غير راغبة في تحقيق ذلك، وتستمر في تأخير أيّ تقدم في عمل اللجنة الدستورية إلى أجل غير مسمى. ويقول آخرون إن نفوذ روسيا على دمشق وقدرتها على الحصول على تنازلات حقيقية من الأسد ليس أكثر من أوهام. في كلتا الحالتين، كان دور موسكو عديم الجدوى وغير مثمر.
تسعى موسكو إلى إبقاء المجتمع الدولي منخرطًا في هذه العملية، وفي الوقت نفسه تسعى لمنعه من إحراز أي تقدم حقيقي في الملف السياسي. وأصبح من الواضح وضوحًا متزايدًا أن موسكو تفضل أن تقصر أي مفاوضات حقيقية على منصة آستانا مع تركيا وإيران، حيث الأهداف أضيق كثيرًا. لكن البرنامج الدبلوماسي، وليس العسكري، هو شرط أساسي لتحقيق الاستقرار في سورية والتوصل إلى تسوية سياسية بموجب قرار مجلس الأمن رقم 2254.
حان الوقت للتخطيط بصدق
الدعوات من قبل النقّاد لوقف أعمال اللجنة جذابة ومغرية بصورة متزايدة. فقد فشلت اللجنة الدستورية في تحقيق هدفها الأساسي المتمثل في تسهيل التسوية السياسية في البلاد. لكن إنهاء الدعم للعملية، من دون بديل دبلوماسي واضح، لن يحقق أهداف قرار مجلس الأمن 2254، أو مصالح الشعب السوري أيضًا.
مع مجيء إدارة أميركية جديدة في واشنطن ملتزمة بالمشاركة الدبلوماسية وحقوق الإنسان، أصبح لدى المجتمع الدولي فرصة لإبلاغ الحكومة السورية وحلفائها، ومنهم روسيا، بأن الامتثال لقرار مجلس الأمن رقم 2254 هو السبيل الوحيد للمضي قدمًا. في ظل غياب آلية سياسية، يصبح الحل الوحيد حلًا عسكريًا، وهو الأمر الذي يجلب معاناة لا توصف للشعب السوري. إذا كان لدى المجتمع الدولي مصلحة في ضمان عدم حدوث ذلك، فعليه حينئذٍ صياغة آلية دبلوماسية بديلة للآلية الموجودة بالفعل. ولا ينبغي التخلي عن الدبلوماسية الإبداعية الآن. ولكن بعد عشرة أعوام من هذا الصراع الوحشي، حان الوقت للاعتراف بأن عمل اللجنة الدستورية قد تدنى كثيرًا عما يدعو إليه قرار مجلس الأمن رقم 2254.
*- الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي المركز أو مواقفه من تلك القضايا.
اسم المقالة الأصلي | Syria: The Constitutional Committee is No Longer Sufficient |
الكاتب* | جمانة قدور، Jomana Qaddour |
مكان النشر وتاريخه | مجلة القانون الدستوري في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، JCL -MENA، 25/2/2021 |
رابط المقال | http://jcl-mena.org/talk-entry.php?bid=3 |
عدد الكلمات | 1115 |
ترجمة | وحدة الترجمة/ أحمد عيشة |