أماكن انطلاق الاحتجاج ضد الأسد، باتت اليوم عسيرة المنال، هذا إن لم تكن مدمَّرة. لكن هناك موقع اهتم بتسجيل المبدعات الفنية التي ولدت من الثورة.
مسجد العمري، بدرعا. وسط مدينة داريّا، في ضواحي دمشق. ساحة الساعة بحمص. حرم جامعة حلب. تلمع هذه الأمكنة الأربعة على خارطة الثورة السورية ببريق لا مثيل له. ههنا إنما اكتسبت الانتفاضة ضد الأسد هيأتها، في شهري آذار/ مارس ونيسان/ أبريل عام 2011. ههنا إنما ابتكرت الأغاني والشعارات الرمزية للحركة. ههنا أيضًا إنما صنع قمع النظام أولى ضحاياه. خلال بضعة أسابيع، هذه الأماكن الأربعة، التي كانت حتى ذلك الحين إلى تفتقر إلى الشهرة الواسعة، صارت قلب الثورة النابض، وتجسيد الأمل المجنون للشعب.
اليوم، هذه الأماكن المؤسسة، التي سيطرت عليها القوات الموالية للنظام بصورة تدريجية، اختفت في ثقب أسود. إنها مستحيلة الوصول إليها من قبل الصحفيين جميعهم تقريبًا، مادام النظام السوري لا يوزع سمة الدخول إلا إلى قبضة من المُفَضَّلين، الذين يجري اختيارهم بعناية. بعض المواقع هدمت، مثل المسجد العمري، الذي دُمِّرَت مئذنته بقذيفة عام 2013، أو مثل داريا، التي استحالت مدينة أشباح، هيكلًا إسمنتيًّا بفعل براميل القنابل التي كانت طائرات الهليكوبتر السورية تلقي بها عليها.
لاسيما وأن هذه المواقع قد غطيت، على غرار سورية كلها، بغلاف من الصمت. الصمت المفروض من السلطة التي قتلت وسجنت قسمًا كبيرًا من الرجال والنساء الذين كانوا بشجاعتهم قد أضفوا على هذه الأماكن سمعة مفاجئة. وكذلك الصمت المتبع أكثر فأكثر من قبل وسائل الإعلام، المحلية والأجنبية، المستهلكة والمرهقة بعشر سنوات من الحرب في اتجاه واحد. لم تظهر سورية ابدًا من قبل على هذا النحو مطفأة، ساكنة، كما لو أنها غُطِّيَت، وأعيدت إلى غياهب النسيان.
طاقة خلّاقة
هذا ما يؤلف كل قيمة الموقع الإلكتروني: ذاكرة إبداعية: “ذاكرة إبداعية للثورة السورية”. يرمي هذا الموقع الذي تديره سنا يازجي، إلى تسجيل وتصنيف كل أشكال التعبير الفني الذي حملت على انبثاقه الانتفاضة ضد الأسد. فبعد أن كانت مسؤولة قبل عام 2011 عن منشور كان يحصي الأحداث الثقافية في سورية، كانت هذه الدمشقية قد انذهلت منذ أيام التمرد الأولى بالطاقة الخلاقة التي كان هذا الأخير قد حررها. ومن بيروت، التي كانت قد لجأت إليها مع أسرتها خلال السنة التالية، انغمرت سنا يازجي في دفق صفحات الفيسبوك المخصصة للثورة كي تقتطف منها الصورً والفيديوهات والرسوم والكاريكاتير واللوحات الفنية والقصائد أو الكتابات على الجدران الأكثر تأثيرًا.
بدأ تفعيل الموقع منذ عام 2013 واغتنى شيئًا فشيئًأ بفضل دعم رعاة الفنون الأجانب وبتعيين فريق صغير، حتى صار يحتوي اليوم على 13000 قطعة رقمية. إنه مكان هجين، فريد من نوعه، خليط من قاعة أرشيف، ومنتدى نضالي ورواق معرض. وبتنظيمه في عدة مشروعات فرعية، فيها خارطة وتسلسل زمني، يؤلف الموقع متحفًا حيًّا للانتفاضة الشعبية بين عامي 2011 – 2012 وللحرب الأهلية التي تبعتها.
وهو بمثابة كونسرفاتوار تجربة جماعية تستهلك ذكراها مع مرور الزمن ويحاول النظام وحلفاؤه طمسها أو تشويهها. “موقعنا ذاكرة تناضل ضد الإنكار، كما تصرح سنا يازجي التي تقيم اليوم في باريس. لنا الحق في أن ننسى، هذا ما يريده الكثير من السوريين بعد كل هذه السنوات من الحرب. لكننا لا نملك الحق في الإنكار”.
الكتابة على الجدران التي بدأ بها كل شيء
بوسع مستخدم الأنترنيت المهموم بالعودة إلى أصل هذا العقد من السنين السوداء، الذي انتهى بمئات آلاف القتلى، إذن، أن يتنقل بين تسلسل زمني غني بـ 400 من المداخل المختلفة، المشار بعناية شديدة الى مصادرها. نجد فيه صورة جدار مدرسة الأربعين بدرعا، حاملًا الكتابة التي أدت إلى انفجار الاحتجاج: “إجاك الدور يا دكتور”. فبعد عدة أيام من سقوط الرئيس المصري حسني مبارك، الذي تبع سقوط زين العابدين بن علي، كانت الرسالة الموجهة إلى بشار الأسد، طبيب العيون، شفافة. توقيف الشباب الذين ألفوا هذه الكتابة التدنيسية على الجدران والتعذيب الذي عوقبوا به أطلقت سلسلة المظاهرات والقمع، التي كانت مصدر الكارثة السورية.
تتيح الفيديوهات العديدة المجمَّعة في الموقع فهم الجرأة الخارقة لهذه التجمعات الأولى. هناك ما سُمِّيَ “جمعة الكرامة”، يوم 18 آذار/ مارس، حيث طالب أهالي وأقرباء الشباب الصفيق بدرعا باستقالة محافظ المدينة. قبل ثلاثة أيام من ذلك، وفي سوق الحميدية في مدينة دمشق القديمة، كان عشرات الأشخاص يهتفون “الله، سورية، حرية وبس!” هتاف حافل بعدم الاحترام لشعار شهير بعثي يقول: “الله، سورية، بشار وبس!”.
تلت هاتين المظاهرتين اللكمتين، اللتين هدمتا جدار الخوف الذي أقامه النظام، حركات أخرى عديدة من الاحتجاج، احتفظ الموقع بآثارها. على باحة جامعة حلب، وعلى قاعدة ساعة حمص، وفي شوارع داريا… تظهر الفيديوهات والصور الفوتوغرافية والرسوم الحيوية المذهلة لهذه اللحظات المؤسسة، حيث كان المتمردون يرقصون وقد تشابكت أذرعهم، تحملهم أنفاس أغانيهم، مقتنعين بأن سقوط الديكتاتور لم يعد إلا مسألة أيام.
اختراق الموقع مرات عديدة
مضى الموقع إلى ما وراء فقاعات النشوة هذه. فهو يحكي أيضًا، بقدر ما كان القمع يشتد، عسكرة التمرد، والجرائم التي ارتكبها المتمردون وازدياد قوة الجهاديين. تقول سنا اليازجي: “ندافع عن قيم شديدة الوضوح، مناصرة للثورة، ولكننا لا نصمت عن إساءات التمرد. ولهذا السبب يستطيع موقعنا أن يخاطب حساسيات مختلفة“. لا ترى السلطة السورية ولا المتعصبين لها تفسها فيه. فبعد أن جرى بث التسلسل الزمني على الموقع، نشرت دمشق “وثيقة وطنية”، تقدم فيها رؤيتها للوقائع، مركزة على الحرب ضد الإرهاب الإسلاموي. جرى اختراق الموقع مرات عدّة، ولاسيما من قبل القراصنة الروس، الذين حوّلوه إلى موقع بورنوغرافي خلال ساعات عدة.
تقول سنا اليازجي: “لا يزعم عملنا أنه يجسد لوحده ذاكرة السنوات العشر الأخيرة. إذ لكي تبرز ذاكرة وطنية حقيقية، لابد من عودة البلد إلى وضعه الطبيعي، وأن يتمتع بـ (أرشيف) محفوظات ديمقراطية ومشتركة، متاحةٍ للمواطنين جميعًا“. هذا اليوم يبدو بعيدًا جدًّا. المحفوظات الوطنية بدمشق موجودة في مبنى قديم مهجور، مماثل للنظام ويوضع الناس بعيدًا عنه. أما بالنسبة للمكتبة الوطنية، وهي مؤسسة في خدمة المجتمع كله نظريًا، فإن مصادرتها من قبل عصبة النظام يُقرَأ في إسمها: مكتبة الأسد.
عنوان المادة: Sur Internet, un musée de l’insurrection syrienne
الكاتب: بنجامين بارت Benjamin Barthe
المترجم: بدرالدين عرودكي
مكان وتاريخ النشر: 17/01/2021 le Le Monde,
رابط المقال: http://bit.ly/3qxFTKM
عدد الكلمات: 1215