ما بدأ في سورية عام 2011 بشكل احتجاجات تُطالب بإصلاح النظام وتخفيف القبضة الأمنية على حياة الناس، تحوّل خلال عقد إلى صراع طويل ومرير، تداخلت فيه المصالح المحلية بالإقليمية بالدولية، وضاعت مطالب المواطنين، ونسي المجتمع الدولي الأسباب الجذرية الأساسية للاحتجاجات، وتكبّد الشعب السوري خسائر بشرية ومادية هائلة، هي الأكبر خلال الخمسين سنة الأخيرة وفق تقديرات أممية.
في السنة الأولى، تعامل النظام السوري مع التظاهرات والاحتجاجات السلمية بعنف مُطلق، فتحوّلت إلى انتفاضة، ومن ثم إلى ثورة، أيّدها العرب والمجتمع الدولي، لكن في السنة الثانية تعسكرت هذه الثورة، وتصاعد العنف، وتبع ذلك خسائر بشرية واقتصادية كبيرة، وتأثرت الدولة والمجتمع على جميع المستويات، وتحولت الثورة ذات المطالب المُحقّة إلى حرب يُشارك فيها أطراف سورية وغير سورية.
حكم بشار الأسد سورية وكأن الدولة بما فيها ملكٌ شخصي له ولثلّة من حاشيته، ومارس سياسات طائفية وتمييزية ضد الشعب، ألحقت ضررًا كبيرًا بوحدة أراضي سورية، ونزعت الهوية السكانية، وبعد الثورة حاول انتزاع الشرعية بقوة السلاح، فبطش بالشعب ودمّر الدولة”، والصورة التي تشكّلت تشير إلى أن هذا النظامَ الذي لا يؤمن لا بالحريات ولا بالحلول الديمقراطية، لن يتخلى عن العقلية الاستبدادية التي يحملها.
بسبب عدم امتلاك السوريين القدرة على حل قضاياهم السياسية بأنفسهم، أفسح المجال لبروز سيناريوهات ومخططات القوى العالمية في البلاد إلى المقدمة. فإلى جانب الجارة تركيا، ثمة العديد من الجهات الفاعلة، كإيران وروسيا والولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة، المرشحة بقوة للعب دور مؤثر في صياغة ورسم مستقبل سورية. وينبغي في هذا السياق عدم إغفال موقف إسرائيل التي تجنّبت طوال فترة الأزمة أن تكون طرفًا مباشرًا في المسألة السورية، سواء في الميدان أو في السياق الدبلوماسي. على الرغم من أنها كانت فاعلة في سير أحداث وتطورات الأزمة السورية، وراغبة في سورية غير مستقرة.. تصارع مشكلاتها.
لم ينهار النظام السوري ولم يسقط، بسبب دعم لا محدود تلقاه من إيران بداية، ومن ثم من روسيا تالياً، وبقي الاسد ونظامه على رأس السلطة، يُحاول أن يحكم دولة اقتربت كثيرأً من حافة “الدول الفاشلة”، حتى أمنياً وعسكرياً، حيث لا يسيطر إلا على أجزاء من البلاد، فيما تُسيطر تركيا على أجزاء، والولايات المتحدة على أخرى، وإيران وميليشياتها على أجزاء تتناقص مساحتها كلما زاد الأمريكيون من ضغطهم عليها.
خلال عقد من الزمن، تقدّم العرب بمبادرة للسلام والإصلاح السياسي، رفضها النظام السوري رفضاً مطلقاً، وقطع علاقته بالكثير من الدول العربية بسبب هذا الرفض، ثم تبنّت الأمم المتحدة القضية السورية، فقدّمت الكثير من المبادرات، كمؤتمر جنيف، والقرار 2254، واللجنة الدستورية، لكن أياً منها لم يوصل سورية إلى بر الأمان، كذلك قاد الروس مسارات متعددة لتطويع حل سياسي لصالح النظام السوري، بعد أن ساعدوه عسكرياً في القضاء على المعارضة السورية المسلحة، لكن كل المسارات الروسية لم تُنتج حلاً سياسياً بعد مرور 10 سنوات.
كل الجهات الفاعلة الرئيسية في سورية يؤكدون التزامهم بالحل السياسي والحفاظ على الحدود السياسية للبلاد ووحدتها، رغم الخلاف حول قضايا سياسية معقدة كالسلطة والتمثيل الديمقراطي ودرجة مركزية الدولة، ويراهنون على أن السوريين من جميع المذاهب السياسية قد استنفذهم الصراع وهم مستعدون للتحرك إلى الأمام نحو أي حل سياسي يوقف حمامات الدم ويعيد الاستقرار والسلام.
في عام 2012 بدأ انتشار الجماعات المسلحة من أكثر من دولة في سورية وتوزعت الأرض السورية بين الأطراف المتحاربة، وعكست الأطراف المتصارعة مصالح مموليها وداعميها، وصارت مشاريع حكم كل منطقة وهيكلها الإداري والأمني والقضائي والتعليمي تعكس أيديولوجيا الأطراف المهيمنة عليها، ونشبت حرب اقتصادية اجتماعية على هامش الحرب العسكرية، ورسخ أمراء الحرب قدراتهم.
بدعم من روسيا، التي تدخلت عسكرياً بشكل مباشر عام 2015، وبدعم من الحليف الاستراتيجي للنظام السوري، استعاد النظام السوري السيطرة على معظم الأراضي السورية، باستثناء محافظة إدلب شمال غرب سورية التي تُسيطر عليها المعارضة السورية بدعم تركي، وشمال شرق سورية التي يُسيطر عليها الأكراد بدعم أمريكي، فضلاً عن بعض الجيوب التي تُسيطر عليها هيئة تحرير الشام (سابقًا جبهة النصرة) التي تُصنف إرهاب عالمي.
في عام 2012 تراجعت مكانة حزب البعث الحاكم في سورية عندما أصدر بشار الأسد دستوراً ألغى فيه المادة التي تؤكد على “قيادة البعث للدولة والمجتمع”، لكن مكانة البعث تراجعت على حساب مكانة الرئيس شخصياً، حيث وضع الأسد لنفسه صلاحيات في هذا الدستور الذي رفضته المعارضة السورية صلاحيات ملك، بيده السلطات الثلاثة، التشريعية والتنفيذية والقضائية، ولتجميل الوضع، فسح الأسد المجال للتعددية الحزبية، فتشكلت أحزاب بلا لون ولا طعم، تُهيمن عليها الأجهزة الأمنية، التي ترك لها الأسد المجال للإفلات من العقوبة في دستور 2012، واستمر الأسد في تعطيل الحلول السياسية إن لم تكن لصالحه بالمطلق.
مناطق جماعات المعارضة السورية خضعت لحوكمة مختلطة غير رسمية، حيث أسست المعارضة حكومة مؤقتة في الشمال، ومجالس محلية، وكانت هذه المحاولات محلية للغاية، وتعتمد على شبكات تعمل بشكل متقطع، مما زاد من التجزئة، ما جعل المانحين الدوليين يتراجعون.
استمرت انتهاكات الحقوق وجرائم الصراع وعدم وجود مساءلة، تهدد محاولات السلام المستدام، وفي
2018 تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، فإنه تم استهداف المدنيين عن عمد طوال فترة الصراع في سورية، وبوسائل وأساليب غير مشروعة وهمجية، وطالت الانتهاكات تدمير البنية التحتية المدنية الحيوية والمرافق الطبية والمدارس والأسواق، وانتشر بشكل واسع الاعتقال الجماعي والاختفاء القسري والتعذيب والانتهاكات ضد الأطفال، ووصل كل هذا في سورية إلى مستويات قياسية لا تُطاق.
تم تدويل الصراع في سورية، واكتسبت الجهات الفاعلة الدولية، الدول والمنظمات الحكومية الدولية، نفوذاً معززاً، واختفت جهود إعادة الإعمار، وربطها الأمريكيون بالحل السياسي، وحذّروا المجتمع الدولي من الحديث عن هذا الأمر بدون حدوث خطوات عملية ملموسة في الحل السياسي، وهذا الأمر بدوره إلى استمرار الوجود العسكري المباشر للعديد من البلدان، مباشرة أو عبر وكلاء، وضعفت المعارضة، وضعفت الحكومة، ما فع السلطة إلى فرض الضرائب والسيطرة على تدفق المساعدات الإنسانية، وانهار الاقتصاد وتراجعت قيمة الليرة إلى مستويات قياسية وانتشر الجوع.
كانت هناك عمليات سلام موازية متعددة، برعاية جهات دولية، بما في ذلك الولايات المتحدة، منها مبادرة سياسية تقودها الأمم المتحدة، عُرفت باسم “عملية جنيف” عام 2012، كما كانت هناك مبادرة روسية عُرفت باسم “عملية أستانا” في كانون الثاني/ يناير 2017، ركزت على القضايا العسكرية والأمنية، وفي عام 2015 خرخ القرار الدولي 2254 كبديل عن عملية جنيف، أقل حدّة وأقل سقفاً، وفي عام 2019 وأوائل عام 2020، شهد الزخم توقفاً في عملية التسوية بسبب عوامل خارجية وداخلية، بما في ذلك زيادة تشديد العقوبات من قبل الولايات المتحدة، والسيطرة التركية على الشمال السوري.
على الرغم من عمليات السلام المتعددة، لم يكن هناك أي تسوية سياسية، لا جزئية ولا شاملة، واستمر الوضع غير مستقر، كما هو حالياً، واستمر احتمال انتكاس الصراع وارداً، رغم انخفاض حدّة العمليات العسكرية في مجمل سورية، وانصب الأمل على لجنة دستورية أقرتها الأمم المتحدة وبدأت أعمالها عام 2019 لوضع دستور جديد لسورية، اجتمعت أربعة مرات، ولم ينتج عنها أي خطوة ولو تمهيدية باتجاه كتابة دستور جديد لسورية.
فرضت العقوبات تكاليف باهظة على المجتمع السوري، وتفاقم اقتصاد الحرب، وواصلت عملية التراكم غير المشروع للثروة، وقُدّر عدد اللاجئين السوريين بأكثر من 5.5 مليون لاجئ، منتشرين في الغالب في لبنان والأردن وتركيا والعراق ومصر، يعيش الكثير منهم تحت خط الفقر، وفي ظل ظروف اجتماعية واقتصادية قاسية، وفي سورية، ووفق المصادر الأممية، أكثر من 11.7 مليون سوري، 5 ملايين منهم من الأطفال، في حاجة إلى شكل واحد على الأقل من المساعدة الإنسانية، وتدهورت المرافق الصحية، وصار 48 بالمئة من السكان غير قادرين على الحصول على العلاج، وافتقر 15.5 مليون سوري إلى مصادر المياه الصالحة للشرب، وتم تدمير آلاف المدارس، وصار هناك أكثر من مليون طفل خارج المدرسة، وترك العمل أكثر من 140 ألف مُدرّس، وصارت سورية تواجه فقدان جيل كامل من تاريخها.
خلال عشر سنوات من الحرب، وبعد العقوبات على النظام، ارتفع معدل البطالة إلى 55 بالمئة، و75 بين الشباب، وابتليت النساء بالعنف القائم على النوع الاجتماعي، وقل التسامح وزاد الاضطهاد على الهويات والأيديولوجيات والأديان والأعراق، وارتفع الفقر إلى نحو 40 بالمئة من السكان، الذين يعيشون على أقل من 1.9 دولار في اليوم، وأدى الانكماش الاجتماعي والاقتصادي الحاد إلى انخفاض حاد في الطبقة الوسطى.
في مقدمة المشكلات الكبرى القائمة حاليًا مشكلة اللاجئين، والتغير الديموغرافي، والفقر، والوجود العسكري الأجنبي في سورية، ورفض النظام لأي حل سياسي لا يناسبه، وقضية أمن إسرائيل، والرغبة التوسّعية الروسية، وأطماع إيران الطائفية، وأطماع الولايات المتحدة، ورغبة تركيا في حماية حدودها على حساب السوريين، ورغبة الجميع في السيطرة على موارد الطاقة، كلها عوامل جعلت الحل السياسي صعبًا على المستوى المحلي والدولي.
بالفعل، يقع نحو 35% من الأراضي السورية تحت سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي، الذراع السوري لتنظيم حزب العمال الكردستاني، المصنف غرهابياً لدى الولايات المتحدة وتركيا، وكل موارد البلاد المائية والزراعية وبخاصة النفطية تقع تحت سيطرته إلى حد بعيد.
بعد عقد كامل من الصراع في سورية، وعليها، يبدو أنه لن ينتصر النظام السوري، وصحيح أن انتصار المعارضة مستبعد كليًا، إلا أنه يجب أن يعترف الجميع بأن المحصلة ستبقى صفرية، وعلى موالي النظام الابتعاد عن الاستقطاب الشديد، والاقتناع مع المعارضة بضرورة صناعة عقد اجتماعي جديد، وتعزيز شرعية مبادئ بناء السلام، والمضي بعملية توافقية تستند إلى قرار مجلس الأمن 2254 الذي يضمن الانتقال نحو بلد ديمقراطي تعددي تداولي، والمضي في هيكلة وتأهيل المؤسسات السياسية من أجل القضاء على الدولة الأمنية والطائفية والتمييز والفساد، وتجنب احتمال الانتكاس في صراع لن ينتهي لعقود مقبلة ما لم يتبن الجميع هذا المسار.