المحتويات
أوّلًا: مظاهر القصور في الثقافة السياسية السورية
ثانيًا: سمات الثقافة السياسية الحديثة
ثالثًا: أثر الثقافة السياسية على النظام السياسي
رابعًا: مرتكزات تجديد الثقافة السياسية في سورية
مقدّمة
مر علم السياسة بمراحل عدة، في مفاهيمه النظرية وتطبيقاته العملية، ويجمع علماء السياسة على أنها تدبير سلمي للصراعات وللتحالفات وفن العيش المشترك ضمن إطار الدولة. أي أنها وسيلة لا غاية، أداة للتفكير في صوغ الحلول المجدية لسائر المشكلات والتحديات. وبوصف السياسة أداة تجعل من نضال السوريين مجديًا، تحقق لثورتهم معناها الحقيقي، ولأنّ انتصار الثورة لا يتحقق من دون استعادة السياسة، وإعادة بنائها في سورية، فإننا نحاول أن نقارب الحاجة إلى ثقافة سياسية متجددة في سورية.
إنّ الثقافة السياسية السورية السائدة تحتاج إلى المساءلة، بمرجعياتها ومؤسساتها ونماذجها ورموزها وإعلامها وخبرائها، لأنها تمتاز بالمكابرة وتبجيل الذات والثبات على الخطأ والتستر على الآفات والهروب من المحاسبة، فضلًا عن القفز فوق الوقائع والخوف من المتغيّرات والتعاطي مع المستجدات بالقديم المستهلك، بل بالأقدم أو الأسوأ من المفاهيم والتقاليد أو الوسائل والأدوات والمؤسسات.
أوّلًا: مظاهر القصور في الثقافة السياسية السورية
ظهر مفهوم الثقافة السياسية في منتصف القرن العشرين ليؤكد أهمية دراسة الأبعاد الذاتية في إطار تحليل الظاهرة السياسية، ويدور المفهوم حول ما يسود المجتمع من قيم ومعتقدات تؤثر في السلوك السياسي لأعضائه حكامًا ومحكومين، إنها “مجموعة المعارف والاتجاهات السائدة نحو شؤون السياسة والحكم، الدولة والسلطة، الولاء والانتماء، الشرعية والمشاركة”، وتعني أيضًا منظومة المعتقدات والرموز والقيم المحددة للكيفية التي يرى بها مجتمع معين الدور الملائم للحكومة وضوابط هذا الدور، والعلاقة الملائمة بين الحاكم والمحكوم.
وعلى ذلك يمكن تحديد عناصر مفهوم الثقافة السياسية على النحو التالي: مجموعة القيم والاتجاهات والسلوكات والمعارف السياسية لأفراد المجتمع، وهي ثقافة فرعية أي جزء من الثقافة العامة للمجتمع تؤثر فيه وتتأثر به، وهي أيضا متغيّرة تبعًا لمعدل التغيّر في البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
إنّ الثقافة السياسية تؤثر في علاقة المواطن بالسلطة، من حيث تحديد الأدوار والأنشطة المتوقعة من السلطة، ومن حيث طبيعة الواجبات التي يتعين على المواطن القيام بها. وفي هذا السياق التعريفي تذهب الكثير من الأبحاث للتأكيد على ذلك الارتباط المفصلي بين الثقافة السياسية والديمقراطية، ذلك أنّ الديمقراطية ليست تعبيرًا عن حقيقة بنائية ومؤسسية فقط، ولكنها أيضًا مجموعة قيم واتجاهات ومشاعر تشجع على الممارسة الديمقراطية الفاعلة من جانب الحكام والمحكومين.
أما في سورية فقد اختفت الثقافة السياسية الحديثة، منذ أكثر من خمسة عقود، وتراجع معها دور الطبقة السياسية المدنية إلى درجة باتت فيها مقاومة المجتمع للسلطة العسكرية-الأمنية ضعيفة، فكانت النتيجة المآلات التي صارت إليها ثورة الحرية والكرامة.
لقد ساهمت العقود الخمسة من الحكم الشمولي في تكريس النزعات المحلية وعبادة السلطة والثروة والاستهتار بالقانون، ومن هنا نحتاج إلى التأكيد على أنّ مشكلة العمل السياسي في سورية نابعة من مشكلة الثقافة السياسية السورية، التي تتصف بغياب الحس السياسي في التعامل مع الاتجاهات السياسية المغايرة، أي غياب القدرة على حل المشكلات عبر التحاور والتشارك، وغلبة الحدية في التعامل مع الخصوم السياسيين، بدءًا من التنديد بهم وتهميشهم، وانتهاءً بتخوينهم والقضاء عليهم.
وقد نتج عن ديمومة الاستبداد أنّ العقل السياسي السوري الحاكم عقل أمني لا مدني، عقل انقلابي لا مؤسسي، عقل استبدادي، عدوه الأول من يعترض أو يفكر بحرية، لا يحسن أصحابه سوى قمع أو استئصال كل أشكال الاختلاف أو المعارضة. وهو عقل طائفي لا وطني، ولذا لم يحسن أصحابه الاشتغال على معطيات المجتمع الأهلي، كي تمارَس الخصوصيات الطائفية أو القومية تحت سقف الدولة الجامعة، بعقلية المداولة المثمرة والشراكة البناءة. وكانت الحصيلة نسف فكرة المواطنة وتلغيم المجتمع السوري، وشل الطاقات الحية فيه، بتحويله إلى حشود، تمارس طقوس الطاعة تجاه زعمائها، الذين يقودونها لخوض حروب تفضي إلى هلاكها.
إنّ المشكلات الأساسية الأربع التي تشكل قاعدة ضرورية لتجديد الثقافة السياسية السورية هي (1): تناقضات الكيان، تناقضات الإقليم، إرث العمل المعارض، وظروف الثورة والشتات. إذ يبدو التساؤل عن ضرورة وجود فاعل سياسي جديد، في لحظتنا الحالية، وكأنه يستدعي البحث في إمكانية إعادة تأسيس “الكيان السوري” بحد ذاته. بما يقتضيه “التحرر” في سياقنا السوري من شكل للدولة أولًا، بما في ذلك قضية اللامركزية والقوانين الانتخابية والعلاقات بين المناطق والجماعات والأفراد، ومن شكل للفاعل السياسي بحد ذاته ثانيًا، بما في ذلك عمقه الاجتماعي وبنيانه التنظيمي.
وإذا كانت الثورة السورية قد دفعت بتناقضات الكيان السوري إلى الواجهة، فإنها سرعان ما كشفت أيضًا عن صراعات إقليمية هي اليوم في أسوأ حالاتها وأكثرها أذية.
ومن نافل القول اليوم إنّ المعارضة السورية، بمختلف أحزابها وتكتلاتها وشخصياتها، خرجت منهكة من حقبة حافظ الأسد، بعد عقدين ونيف من التغييب في السجون والتحطيم الكامل لجميع أشكال التنظيم السياسي والنقابي؛ فخلال تلك الفترة كان العدد الأكبر من الفاعلين في المعارضة السورية قد كبروا في العمر، وعانوا السجن والنفي والتحطيم السياسي، كما كانت أدواتهم الفكرية والأيديولوجية قد تقادمت وشاخت وتكلّست، وخصوصًا أنّهم قد حُرموا من التعاطي المباشر مع التحولات الفكرية والسياسية في عقدي الثمانينيات والتسعينيات، ما أفرز آليات عمل وتفكير ستستمر إلى ما بعد اندلاع الثورة السورية وحتى يومنا الحالي، وأنّ هذه الآليات باتت اليوم في صلب أزمة السياسة في سورية.
ولعل التحدي الأكبر الذي أنتجته الثورة أمام فرص العمل السياسي الحقيقي، بعد الحرب والدمار والتهجير، يتعلق بتسارع الأحداث وتغيّرها المستمر وإدخال البلاد في حالة الاستثناء، ما يجعل الفاعل السياسي المرتجى لا يملك ترف التعالي على المتغيّرات والمستجدات اليومية، بل على العكس تمامًا، قد يكون تنسيق مواقف مشتركة تجاه ما يحصل على الأرض في سورية أولًا، وسير العملية التفاوضية في جنيف ثانيًا، وحال السوريين في بلاد الشتات ثالثًا، المدخل المناسب للبدء في سبر فرص العمل السياسي المنتظم. فعلى مستوى الخارج، هناك ضرورة سياسية ماسة للنظر إلى الشتات السوري على أنه توسع للمعنى البشري لسورية.
كما أنّ أغلب القيادات السياسية تفتقر إلى القدرة على استيعاب المتغيّرات في البيئتين الإقليمية والدولية، والتركيز على المشكلة الرئيسة وتحديد الأولويات. ثم إنّ الثقافة السياسية الحقيقية غدت مغيّبة ومستهجنة، فتلاعبت العواطف بأهواء الكثير من السياسيين السوريين، وطغت عليها شعارات واهية، كما تحكمت السرعة في قراراتها. ما أدى إلى تشخيص خاطئ للمشاكل، وطرح حلول غير صالحة لا تقود إلا إلى الفشل.
ومما يؤسف له أنّ رصيد التجربة السياسية السورية يكشف أنّ أغلب أحزاب المعارضة ظلت محكومة، في وعيها وفي تجربتها، بالتحرك ضمن مدار إشكالية السلطة، في حين غابت إشكالية المجتمع في رهانات التغيير لديها.
وفي محاولة فهم وتحليل الثقافة السياسية ومواقف السياسيين والأحزاب والجماعات ثمة بعض المنطلقات والمفاهيم التي تستخدم وتشتغل بفعالية (2): أولها، سياسة تقوم على الأيديولوجيا، إذ تتبنى مجموعة مبادئ توجه تلك السياسة والقائمين عليها، وتستهدف تطبيق “البرنامج” الأيديولوجي المعلن. وثانيها، سياسة تقوم على البراغماتية حيث تكون المصلحة هي بوصلتها. وثالثها، سياسة تقوم على المثالية وتلزم نفسها بمجموعة مبادئ وقيم، تنزع إلى تطبيقها ونشرها في سبيل تحقيق صورة المجتمع والعالم المثالي الذي يستحوذ عليها. وقد تكون السياسة المتبعة من جهة دولة، أو حزب، أو جماعة، أو فرد هي خليط من ذلك كله، فتشترك عناصر أيديولوجية وبراغماتية ومثالية ودينية، كلها، أو بعضها، لتكون الإطار العام الذي تشتغل فيه تلك السياسة.
وفي الواقع إنّ كل الادعاءات الأيديولوجية والشعارات الكبيرة تُزاح جانبًا ويتولى “محرك المصلحة” قيادة السياسة وتوجيهها. وكلما كانت المصلحة عارية وفجة فإنها تتدثر بشعارات أكثر وتزعم اتساقها مع مبادئ معينة، أو أنّ ما يراه الآخرون من انجرافها وراء مصلحتها هو في الواقع لنشر مبادئ معينة أو الدفاع عنها.
وفي الوقت الراهن هناك الكثير من التسييس السوري الذي يتحدى كل تلك المفاهيم، ولا يندرج في أي سياق منطقي للفهم. فهناك أطراف سياسية، تتبنى سياسات ومواقف يصعب تفسيرها وفهمها من منظور أي منطلق من المنطلقات التقليدية المعروفة في فهم السياسة، إذ لا علاقة لها بالمبادئ، أو أنها تندرج وفق منطق المصالح، وبعيدة عن العقلانية والبراغماتية التي تسم السياسة الرشيدة.
وهكذا، تتعدد أوجه القصور في الثقافة السياسية السورية: فمن جهة، تهيمن الأدلجة العميقة على العقل السياسي السوري، ما جعله لا يهتم إلا بالعموميات وينسى التفصيلات. ومن جهة ثانية، فإنّ تحوّل ترييف العمل السياسي إلى ظاهرة إشكالية بحكم تلازمه مع آليات تفكير عقائدي، قد ساهم في إعادة إنتاج المنظومات المعرفية والفكرية والسياسية. ومن جهة ثالثة، فقد ساهم تنامي ظاهرة “العائلية السياسية” ، مع العوامل السابقة، في تحويل الأحزاب السياسية أطرًأ مغلقة نابذة لأي مشاركة شبابية مبدعة وناقدة. ومن جهة رابعة، فإنّ إعادة إنتاج الصراعات السياسية الراهنة من منظور طائفي مغلق وعميق، يدلل على أنّ العقل السياسي السائد يستند في آليات اشتغاله إلى عصبية ما قبل الوطنية، وهذا يجعله، في ظل هيمنة التأخر التاريخي، أكثر استبدادًا وأحادية. وفي ذلك يكمن دمار الإنسان وضياع الوطن وانقسام الجغرافية وصراع الولاءات في بحثها عن شرعية خارجية.
ومن جهة خامسة، فإنّ خلو مناهج التعليم من التطرق لما يبني ثقافة سياسية سليمة في النشء، تبصّره بما له من حقوق وما عليه من واجبات، أي التربية المواطنية، تلك الثقافة التي تجعل الشخص يعبر عن رأيه بشكل حر، وقرار مستقل ينبع من ذاته لا من شعارات الآخرين أو تحت ألويتهم. وأخيرًا لا يمتلك الوعي المطابق لحاجات الواقع السوري.
هذه الأفكار تشكل تحديًا تنظيميًا وفكريًا لأي فاعل سياسي مستقبلي، إذ عليه ألا يهرب من واقع وجود ظروف مختلفة للسوريين، تفرض وجود مصالح ومنطلقات وآمال مختلفة فيما بينهم أيضًا.
ثانيًا: سمات الثقافة السياسية الحديثة
في السياسة غير العقلانية تغيب البراغماتية التي تعتمد اللقاء في منتصف الطريق، والتي تحسب حسابات الربح والخسارة بدقة. وفي السياسة الرشيدة والمصلحية تكون المساومة واللقاء في منتصف الطريق بين الأطراف هي السياسة الهادية، وليس الحرد، والانتقام، وإدارة الظهر كليًا. ويكون الانشغال في توسيع مربع الأصدقاء وتقليل الأعداء أو تحييد ما أمكن منهم. وتتميز هذه الثقافة السياسية بأنها:
1- إنسانية، من حيث اتجاهها إلى توعية الإنسان بحقوقه وواجباته، بهدف ما يحقق له ماهيته وجوهره.
2- تنويرية وعقلانية، من حيث تأسيسها على مفاهيم الحرية والتسامح والاختلاف والكرامة والمساواة والديمقراطية، بقصد تنوير الأفكار والأذهان والسلوكات والعلاقات.
3- نقدية، من حيث نزوعها إلى إعادة النظر في مختلف القيم والمبادئ والسلوكات التي تتنافى مع قيم العصر.
4- عصرية، من حيث ضمانها تفتح شخصية المواطن على المحيط الذي يعيش فيه، أفراد ومؤسسات وقوانين، والتفاعل الإيجابي معه.
5- قانونية، من حيث اقتناعها بضرورة تمفصل السلطات الثلاث: التشريعية، التنفيذية، القضائية. وضرورة انبثاق السلطة التشريعية عن انتخابات حرة ونزيهة وتعددية، تمارس دورها في تشريع القوانين ومراقبة ومحاسبة السلطة التنفيذية. أما السلطة القضائية، فيجدر بالثقافة السياسية العصرية أن ترسخ مفهوم استقلاليتها التامة عن أي مؤثرات خارجة عن إطار القانون والعدالة القضائية.
كما أنّ الحياة لا تستقيم في الدولة الحديثة من دون مجال خاص لكل فرد، لا سلطان عليه، فيه، إلا للدستور والقانون. ويرتبط ذلك الاحترام للمجال الخاص، وتقييد تدخل السلطة العامة فيه استنادًا إلى دعاوى أخلاقية أو دينية أو غيرها، بمفهوم الإنسان في الدولة الحديثة. فالإنسان في هذه الدولة كائن عاقل بكل ما تعنيه الكلمة، وقادر بالتالي على تقدير الصواب والخطأ، ومسؤول في هذا الإطار عن تصرفاته واختياراته وسلوكه، لكن أمام القانون دون غيره.
إنّ الثقافة السياسية الجديدة التي ننشدها ونتطلع إليها، هي تلك الثقافة التي تعزز التطور الديمقراطي والحقوقي في سورية المستقبل، وتحول دون بروز السياقات الثقافية والاجتماعية والسياسية المؤسسة والمفضية إلى تجديد الاستبداد.
إننا في حاجة إلى ثقافة سياسية تعزز الخيار الديمقراطي في صفوف أبناء المجتمع، وتعمل على تهيئة المناخ لرفض كل محاولات تكميم الأفواه والعودة بالمجتمع إلى الأنظمة الشمولية التي تلغي الإنسان وحقوقه، وتحارب كل محاولاته للتحرر والانعتاق من ربقة الاضطهاد والقهر السياسي والاجتماعي.
ثالثًا: أثر الثقافة السياسية على النظام السياسي
يحتاج أي نظام سياسي إلى وجود ثقافة سياسية تغذيه وتحافظ عليه، فالحكم الفردي توائمه ثقافة سياسية تتمحور عناصرها في الخوف من السلطة والإذعان لها، وضعف الميل إلى المشاركة، وفتور الإيمان بكرامة الإنسان وذاتيته، وعدم إتاحة الفرص لظهور المعارضة. أما الحكم الديمقراطي فيتطلب ثقافة تؤمن بحقوق الإنسان، وتقتنع بضرورة حماية الإنسان وكرامته في مواجهة أي اعتداء على هذه الحريات، حتى لو كان من جانب السلطة نفسها، كما يشترط لاستمرار النظام والمحافظة على بقائه توافر شعور مُبادل بالثقة بالآخرين في ظل مناخ اجتماعي وثقافي يعدُّ الإنسان لتقبل فكرة وجود الرأي والرأي الآخر، ويسمح بوجود معارضة فاعلة في إطار قواعد وأطر سياسية لكي تنظم العلاقة بين أفراد المجتمع السياسي.
وتؤثر الثقافة السياسية كذلك على علاقة الفرد بالعملية السياسية، فبعض المجتمعات تتميز بقوة الشعور بالولاء الوطني والمواطنة المسؤولة، وهنا يتوقع أن يشارك الفرد في الحياة العامة، وأن يسهم طواعية في النهوض بالمجتمع الذي ينتمي إليه. وفى دول أخرى يتسم الأفراد بعدم المبالاة والاغتراب وعدم الشعور بالمسؤولية تجاه أي شخص خارج محيط الأسرة. وفى بعض الأحيان ينظر المواطن إلى النظام السياسي على أنه أبوي يتعهده من المهد إلى اللحد، ويتولى كل شيء نيابة عنه، ويعمل على ضمان رفاهية الجماعة. وفى المقابل قد يتشكك الفرد في السلطة السياسية ويعدّها مجرد أداة لتحقيق مصالح القائمين عليها ليس إلّا. لذلك يمكن القول: إنّ الاستقرار السياسي يعتمد على الثقافة السياسية، فالتجانس الثقافي والتوافق بين ثقافة النخبة والجماهير يساعدان على الاستقرار، أما الاختلاف بين ثقافة النخبة وثقافة الجماهير فإنه يشكل مصدر تهديد لاستقرار النظام السياسي.
رابعًا: مرتكزات تجديد الثقافة السياسية في سورية
من جملة الأهداف التي ثار السوريون لأجلها، هي العمل على امتلاك السياسة، وإعادتها إلى المجال العام. وحين كان النضال السلمي يتجذر ويتوسع ويتمدد في سورية، كان التركيز على استثمار هذا النشاط وتوظيفه في خدمة إنجاز الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية، بعيدًا عن العمل الدؤوب على تأطيره ومأسسته، ليكون قادرًا على حماية نفسه والانتقال إلى ضفة السياسة، بمعنى أنه لم يُستثمر كثيرًا في هذا الأمر. وإن كانت الأشهر الأولى من الثورة السورية، قد حملت جنينًا واعدًا، حين ولدت تيارات سياسية كثيرة، عبّرت عن نفسها، إلا أنها سرعان ما ماتت أو تعطلت، بفعل تصاعد العنف الوحشي للنظام من جهة، واتجاه الثورة “بفعل أسباب متعددة” نحو التسلح الذي يترك كل شيء للعسكرة، ولِما بعد إسقاط النظام، لينشأ لدينا عسكر من دون سياسة، فكان أن طغى العسكري حين امتلك القوة دون وعيّ سياسي يوجهه، وذلك كله بالتوازي مع شيوع نظرة دونية للسياسة في أوساط الشباب والناشطين، بعد الأداء الهزيل للكيانات السياسية مجتمعة.
إنّ عملية تأسيس وبناء ثقافة سياسية جديدة، تتجاوز رواسب الانحطاط وموروثات الاستبداد السياسي، وترتبط بطبيعة الأهداف المتوخاة من هذه العملية: إشاعة النمط الديمقراطي في الحياة العامة، حيث تكون الديمقراطية، كثقافة وآليات ووسائل ونظم، هي السائدة في الحياة السياسية وإدارة شؤون الدولة والسلطة، كما هي جزء حيوي في النسيج الاجتماعي والثقافي.
كما أنّ كثيرًا من التناقضات والتوترات السياسية والاجتماعية الداخلية، لا يمكن معالجتها من دون ثقافة سياسية متجددة، تؤسس لنمط جديد من العلاقة والتواصل بين مكونات المجتمع وقواه، قوامها التسامح والحرية وسيادة القانون وقيم حقوق الإنسان. فكثير من مشكلات سورية في حاجة إلى رؤية وحلول جديدة، تتجاوز النمط التقليدي في معالجة هذه المشكلات. فأزمات السلطة وعلاقتها بالمجتمع وتعبيراته المتعددة وطبيعة الموقف من تعدد المكونات السورية، في حاجة إلى ثقافة سياسية جديدة، تعيد صوغ العلاقة على أسس جديدة بين السلطة والمجتمع، كما أنه لا يمكن تجاوز معضلات التمييز الطائفي والعِرقي والقومي، من دون ثقافة سياسية، تعيد إلى التنوع كينونته ومتطلباته، وترسي دعائم المواطنة وأسس الوحدة وفق رؤية وثقافة لا تلغيان الخصوصيات الثقافية لكل فئة أو شريحة في المجتمع، بدل أن تشرعا في الانكفاء والانحباس في الذات.
وعليه، لا بد من تغيير الثقافة السياسية السائدة كمدخل أساسي للبناء الديمقراطي، وذلك من خلال العناصر التالية:
1- استثمار تأثير ربيع الثورات العربية على الثقافة السياسية
مع الثورات تغيّرت وتبدّلت القوالب الثابتة للثقافة السياسية السائدة وحلّت محلها ثقافة سياسية جديدة شكّل الفضاء العمومي منطلقًا لها، تنهل من قاموس ديمقراطي غير معهود، من قبيل حلول شعارات الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة وتفكيك ثقافة الخوف وتكسير أنماط الخضوع والخنوع، والتحرر من أسيجة وأغلال الاستعباد، فمع الثورات الميدانية بدأ عهد جديد يتصرف فيه الفرد كمواطن له كلمته ورأيه، وله دوره وفعاليته، كمشارك في الثورة على الظلم والطغيان أو في اختيار الحكام.
2- تكريس ثقافة “المصالحة التاريخية” و”التوافق السياسي” في تدبير المرحلة الانتقالية
ثقافة المصالحة التاريخية والتوافق السياسي قادرة على تذويب الصعاب ومختلف الاختلافات الأيديولوجية والانتماءات السياسية في بوتقة واحدة، تخدم بناء دولة الحق والقانون والمؤسسات، وكذلك التعبئة السياسية وتجنيد كل الفاعلين بغض النظر عن هوياتهم السياسية والمدنية، وهذا يقع في صميم السيرورة الديمقراطية.
3- الحاجة إلى ثقافة سياسية جديدة لتعزيز البناء الديمقراطي الحقيقي
إنّ للثقافة السياسية تأثيرًا كبيرًا على النظام السياسي بوجه خاص والحياة السياسية بوجه عام، إذ تدفع الأفراد والجماعات إمّا في اتجاه الانخراط في النظام السياسي، أو تدفعهم في اتجاه عدم المبالاة والسلبية السياسية، ومن دون التلاؤم بين الثقافة السياسية والبنية السياسية، يتعرض النظام السياسي للخطر ويتهدد بالسقوط.
4- تحصين قيم الثقافة السياسية والبناء الديمقراطي
إنّ التحصين الحقيقي لقيم الثقافة السياسية والبناء الديمقراطي يستند إلى جملة من الموجبات والأساسيات والاشتراطات: أولها، استنهاض الوعي السياسي الديمقراطي الذي يشكل منبع التفكير والسلوك الديمقراطيين، وتأتي في مقام ثانٍ التنشئة السياسية من خلال استحضار دورها المحوري في التربية والتأطير وغرس قيم ثقافة المواطنة. وفي المنحى نفسه تبرز أهمية ومحورية مصالحة المواطن السوري مع السياسة من خلال تعزيز المشاركة السياسية.
إنّ البناء الديمقراطي الحقيقي في حاجة إلى تشكيل ثقافة سياسية جمعية، نابذة لكل الصراعات ما قبل الوطنية والتموضع في بوتقة الدولة الواحدة، بمعنى ترسيخ الجهود في سبيل تحقيق العيش المشترك تحت سقف الديمقراطية، التي تحفظ حقوق جميع الأقليات والمذاهب والانتماءات، بالشكل الذي يزكِّي مقومات الدولة الحديثة، ويقطع مع الثقافة السلطوية في مختلف صورها.
لقد حررت الثورة الإرادة السياسية للسوريين، غير أنّ التمكين للوعي السياسي وللثقافة الديمقراطية أمر ما زال باهت الحضور في المشهد الانتقالي السوري؛ إذ إنّ معظم الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني معنية بالاستقطاب، أكثر منها بتوجيه السلوك السياسي للمواطنين، وإعادة تأهيلهم، لتمثُّل ثقافة المواطنة، ومقتضيات العيش المشترك في مجتمع تعددي. من هنا، فنحن في حاجة إلى وعي سياسي تنويري، يعيد الاعتبار إلى قيمة الحرية والمواطنة المسؤولة في آن، عسى أن نؤسس معالم المجتمع الديمقراطي السوري المنشود. ومن أجل تجديد الثقافة السياسية في سورية يمكن الإشارة إلى أهم القواعد والمبادئ:
1- عدّ ساحة الفعل السياسي مفتوحة دومًا على قوى ومجموعات ذات تصورات فكرية ومشارب سياسية متباينة، خاصة بعد خمس سنوات ونصف من الثورة السورية التي أفرزت قوى اجتماعية ورؤى ووسائل عمل لم تكن معهودة قبلها. وسيكتشف الشعب السوري حاجته إلى أحزاب سياسية مدنية تعقد مؤتمراتها على الملأ وتعيد انتخاب قياداتها ديمقراطيًا، والأكثر من هذا فإنّ السوريين سيدركون -بالتدريج- أنهم لن يحتاجوا في الضرورة إلى التحزب المغلق، ففي وسعهم أن يكونوا مؤيدين لهذا الاتجاه أو ذاك وفقًا للتجربة وصدقية البرامج المطروحة.
2- ضرورة التزام الخطاب العقلاني والواقعي في العمل السياسي، لما يتيحه ذلك من إمكانية الإحاطة بالواقع الشامل والتعرف إلى العوامل المؤثرة في سيرورة تطوره.
3- اعتماد ثقافة الحوار، انتصارًا لفكرة أو دفاعًا عن موقف وحماية لمصلحة خاصة أو عامة.
4- الاستعداد الواضح لتمكين الشباب والنساء من تحمّل مسؤولية قيادة العمل السياسي، بوصف ذلك شرطًا أساسيًا من شروط تجديد سورية وضمان مستقبلها. والرهان هو أن نتغيّر في ضوء المتغيّرات، فكرًا وعملًا، رؤيةً ومنهجًا، سياسةً إستراتيجيةً، حيث نتغيّر به عما نحن عليه، لكي نحوّل الواقع ونساهم في تحويل سوانا عبر مشاركتنا في سورية الجديدة.
5- التنمية السياسية التي تتيح في المجال لاستيعاب المتغيّرات والتكيّف مع التحولات الاجتماعية، خاصة المؤسسات الحديثة للمجتمع المدني، ما يقتضي توافر العقلانية، والاندماج، والتكامل الوطني، والمأسسة، والتعبئة، والمشاركة (3). ولعل هذا ما يوضح أنّ التنمية السياسية هي البعد الذي لا تنطلق إلا منه أي تنمية حقيقية، بمضامينها الموضوعية، مع أهمية باقي الأبعاد في إطار تكاملي. ولكنّ تجاهل التنمية السياسية أو إقصاءها يلقي بظلاله على باقي الأبعاد وقد تتحكم فيها الأهواء، والتوجهات الشخصية، في غياب المؤسسات الدستورية، والنظام الديمقراطي الحقيقي بكل منظومته.
6- فكرة التلاؤم بين الأهداف والوسائل وضبط إيقاع الخطاب السياسي على هدى ممكنات الممارسة الفعلية، وفي مقدمتها استحضار درجة الاستعداد الشعبي العام للفعل والقدرة على التأثير في مسار الأحداث ضمن موازين قوى محددة.
7- تعميم الوعي السياسي، وتفعيل دور المواطن في الحياة العامة، أمران ضروريان، يساهمان في جعل العمل السياسي فعلًا مدنيًا جماعيًا بامتياز، لا تنهض به النخب فحسب، ولا يحتكره الحكام والقادة من دون سواهم.
8- عدم اختزال السياسة في الأخلاق، وكأن السياسة لا شغل لها سوى تحصيل الخير والفضيلة والفعل المنزه عن المصلحة (4). وعلى هذا الأساس، فإذا كانت الأخلاق، من حيث المبدأ، غير مهتمة بشكل مباشر بالشأن العام بوصفها أخلاقًا كونية، أو كما يراد لها أن تكون؛ فإنّ السياسة يستحيل أن تصير كذلك، لما لها من طابع خاص. فإذا كانت الأخلاق أيضًا ذات طابع منعزل أو منفرد (لا تقوم إلا بصيغة الضمير المفرد)، فإنّ أي سياسة لا تستقيم إلا ضمن وجود جماعي. وعليه، فلا يمكن للأخلاق أن تنوب عن السياسة، ولا أن تحل السياسة مقام الأخلاق. فنحن في حاجة إليهما معًا، شريطة مراعاة التباين القائم بينهما.
وعليه، فلا بدّ من التأكيد على مجموعة جوانب مترابطة للتغيير، الذي يمكّننا من القطيعة مع التأخر والانطلاق إلى مسارات التحرر من المحنة السورية:
1- مبدأ الحرية والاختيار، لأنّ الحرية ترتبط بالمسؤولية وتنفي الحتمية أو الجبرية، وتجعل من الضروري إلقاء الضوء على فعل الاختيارات الممكنة تاريخيًا، وصنع الاختيار انطلاقًا من الوعي بمعطيات الواقع والذات.
2- النسبية والتنوع والاعتراف بالآخر، فكل حقيقة نسبية، ولكل فكرة تجلياتها الجزئية، ومن حق المجتمع السوري أن يطّلع على كل الخيارات المتاحة، التي تبلورت بحرية، وأن يختار من بينها.
3- ثقافة الامتياز والإنجاز، إذ إنّ الفائزين في المنافسة الحضارية هم مَنْ يسعون لتحقيق أعلى معدلات وأرقى مستويات الأداء في مجالات الحضارة المختلفة، وبخاصة مجالات الإنتاج والاقتصاد والثقافة.
4- المؤسساتية، إذ تحتاج الثقافة السياسية السورية احتياجًا أساسيًا وعميقًا لاستيعاب أهم منجزات الحداثة وهي المأسسة، بما تنطوي عليه من: تمييز الخط الفاصل بين الشخصي والعام فيما يتعلق بالدور والملكية والسلطة، والاتصال والديمومة في أداء الوظائف، والدقة البالغة في تعيين الاختصاص والتمييز بين الأدوار، وتقسيم العمل، وإحداث التكامل بين الوظائف والاختصاصات عبر آليات مستقلة –نسبيًا- عن الأشخاص.
5- استعادة ثقافة المساواة والحق، فمثلًا، لم ننجح بعد في إقرار حق المرأة في المساواة، وما زالت تلك الضرورة والحتمية متعثرة في الوعي وفي الممارسة على السواء، ونعتقد أنّ تحرير المرأة والإقرار بحقها في المساواة هو شرط مهم لتحرير عقولنا جميعًا، بل ولتحرير تاريخنا من الركود.
6- جدلية التعاون والتنافس، إذ يجب أن نغرس في الثقافة السياسية السورية فكرة أنّ التطور رهن بالتنافس والتعاون معًا، ومن ثم أولوية النضال السلمي من أجل حل التناقضات حلًا عادلًا، ومن دون إخلال بالحق.
خاتمة
إنّ الممارسة السياسية لا يمكنها أن تترسخ إلا في ظل بنية ثقافية تقوم على المساواة وحرية العمل السياسي للقوى والتنظيمات السياسية المختلفة، كذلك لن يكون بالإمكان إرساء قواعد ممارسة تنمية سياسية حقيقية وتكريسها في إطار بنية سياسية ملائمة، إلا عندما ترتقي بنية الثقافة السياسية إلى مستوى قواعد وأسس العمل الديمقراطي بمبادئه وقيمه ومضامينه التي ترتكز على الإيمان بالمواطنة، ما يؤشر إلى أنّ التنمية السياسية تتضمن -في أحد جوانبها- تنمية روح المواطنة والولاء والمشاركة، من خلال جعل الأفراد مواطنين فاعلين ومشاركين نشطين في إدارة شؤونهم العامة، كونها تعمل على تنمية قدراتهم على إدراك مشاكلهم بوضوح، إضافة إلى تنمية قدراتهم على تعبئة كل الإمكانات المتاحة لمواجهة هذه المشكلات بشكل علمي وواقعي، وتجذير الممارسات السياسية وتطويرها لتصبح أكثر ديمقراطية.
المراجع
- – كرم نشار وياسين سويحة، أزمة السياسة وتحدي الفاعل السياسي (1 من 2)، الموقع الإلكتروني “أوا ” – 26 نيسان/ أبريل
- – د. خالد الحروب، أوهام التسيُّس العربي، صحيفة “الاتحاد” الإماراتية – 6 أيلول/ سبتمبر
- – ثامر كامل محمد، المجتمع المدني والتنمية السياسية، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية
- -أندري كومت سبونفيل، ترجمة حسن بيقي، مفهوم السياسة، الموقع الإلكتروني “أوان” – 29 آذار/ مارس