تشكّل المجلس الوطني السوري في الربع الأخير من عام 2011، حاملاً معه آمالاً عراضاً عُلقت عليه من قبل جمهور المعارضين للنظام، وترافقت هذه الآمال مع تأييد شعبي مرتفع. لكن هذا التأييد سرعان ما انخفض بشكل مضطرد مع ضعف الإنجاز المرتجى، وعدم قدرة المجلس على تأمين تدخل عسكري خارجي يقتلع الأسد أو حظر جوي فوق سماء سورية، يحمي المواطنين من فتك النظام، وطفو الصراعات الداخلية بين مكوناته على السطح نتيجة رغبة بعض أعضاء المكتب التنفيذي بالإطاحة به واستبداله بجسم جديد، وعدم تقديم رؤيا واضحة المعالم للحل السياسي ولا لشكل الدولة في سورية المستقبل، وترافق كل ذلك مع بروز ظاهرة الإسلام السياسي والجماعات المتشددة ولا مبالاة المجلس تجاهها.
ويعتقد أن أكبر خطأ استراتيجي ارتكبه المجلس الوطني هو عدم إدراكه لمضمون بيان جنيف واحد في الثلاثين من حزيران 2012، وأن المجتمع الدولي بالرغم من ادراكه لماهية المعادلة السورية، وهي انتفاضة شعبية من أجل دولة مدنية تعددية في مواجهة نظام مستبد يريد إعادة الناس الى ما كانوا عليه قبل منتصف آذار 2011، إلا أنه قرر تشكيل نظام جديد مناصفة بين الطرفين وبالتوافق بينهما. وبدا جلياً أن هذا المجتمع الدولي الذي أصبح المتحكم الأكبر في مجرى الأحداث في سورية قد حسم أمره، وأن الثورة السورية لن تنال بأحسن الظروف أكثر من نصف مطالبها.
ثم جاءت القشة التي قصمت ظهر البعير عندم رفض المجلس الوطني عملياً بيان جنيف واحد وأفشل تشكيل لجنة المتابعة والتي كان مقرراً لها أن تعلن الموافقة على البيان ومن ثم الذهاب الى المفاوضات، ما دفع المجتمع الدولي للبحث بديل .
مهّدت الأجواء السابقة جميعها لولادة الإئتلاف الوطني، والذي تأسس بسقف توقعات شعبية أقلّ من تلك التي صاحبت المجلس الوطني، لكنها بقيت توقعات مرتفعة مع انتخاب الشيخ معاذ الخطيب رئيساً له، والذي كان يحظى بسمعة جيدة في الأوساط الشعبية، وقادم من خارج الوسط السياسي الذي شكّل المجلس الوطني وغيره من التجمعات السياسية المختلفة التي عرفتها الفترة التي سبقت تشكيل الإئتلاف.
لكن الأجواء الإيجابية التي صاحبت تأسيس الإئتلاف سرعان ما بدأت بالتراجع في الأشهر التالية، بسبب وقوعه بنفس أخطاء المجلس الوطني إن لم تكن أدهى، فقامت الدول الداعمة له بفرض عملية توسعة بعد أقل من سبعة أشهر على ولادته، بحجة إصلاح ما قيل إنه خلل في بنائه، وميل لصالح مكونات بعينها. وقد تمّت عملية التوسعة بمشاركة دبلوماسية وأمنية على أرفع المستويات لكل الدول المعنية بالشأن السوري تقريباً، حتى ساد الاعتقاد في الوسط السياسي أن المجتمع الدولي سيكون بصدد قرارات كبرى تخص الأزمة السورية، وأن إعادة تشكيل الإئتلاف بهذا الشكل متطلب أخير لترتيبات سياسية مصيرية في سورية!.
غير أن الشهور التالية أظهرت غياب أي تغيّر إيجابي في أداء الإئتلاف أو في مواقف الفاعلين الإقليميين والدوليين نحوه. واستمرّت مكانة الإئتلاف وشعبيته في التراجع، قبل أن يتحوّل إلى مكوّن من مكوّنات “الهيئة العليا للمفاوضات” في نهاية عام 2015، والتي لم تسحب منه مهمة التفاوض فحسب، بل نازعته على الشرعية والتمثيل أيضاً.
ويدرس تقدير الموقف هذا مسيرة الإئتلاف منذ تأسيسه قبل خمس سنوات وحتى اليوم، ويحاول قراءة الأسباب التي أدّت إلى إخفاقه، وتحوّله من ممثل شرعي للشعب السوري في قمة مراكش إلى مجرد منصة سياسية؛ تبحث عن موطئ قدم بين العديد من المنصات والهيئات الأخرى.
أولاً: النشأة والمسار
أُعلن عن تشكيل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية في العاصمة القطرية الدوحة في 11/11/2012، من قبل عدد من القوى السياسية والشخصيات المعارضة، وتم انتخاب معاذ الخطيب رئيساً للائتلاف، وسهير الأتاسي ورياض سيف نائبين له.
شارك الإئتلاف بعد شهر من تشكيله في المؤتمر الرابع لمجموعة أصدقاء سورية، والذي عُقد في مدينة مراكش المغربية في 12/12/2012، بحضور (120) دولة، في أكبر تجمّع دولي عرفته المعارضة السورية منذ عام 2011 وحتى اليوم. وحصل الإئتلاف في هذا الاجتماع على اعتراف به كممثّل شرعي للشعب السوري.
وفي 31/5/2013 شهد الإئتلاف عملية توسعة بعد اجتماعات استمرّت تسعة أيام بلياليها، وشارك فيها، إلى جانب الإئتلاف والمنبر الديموقراطي المنبثق عن لقاء القاهرة، وزراء خارجية ومسؤولون رفيعو المستوى في أجهزة المخابرات وسفراء لعدد كبير من الدول الإقليمية والدولية. وأدّت التوسعة إلى إضافة (43) عضواً جديداً، ليصبح عدد الأعضاء الكلي (114) عضواً.
جاءت التوسعة تحت لافتة إعادة التوازن داخل الإئتلاف، ليصبح أكثر تمثيلاً للمعارضة وللشارع السوري، ومحاولة لمواجهة الانزياح باتجاه أسلمة الثورة، فيما يرى البعض أنها كانت لضمان التوازن بين الدول الإقليمية والدولية، وتوزيع الثقل بين الأقطاب الذين يمثّلون هذه الدول.
تقدم معاذ الخطيب (عبر وسائل الاتصال الاجتماعي) باستقالته من رئاسة الإئتلاف بعد 4 أشهر ونصف من توليه مهام منصبه، لكنه عاد عنها لاحقاً، واستمرّ بشكل متقطع حتى انتخاب أحمد الجربا رئيساً في 6/7/2013، واستمرّ في موقعه لولايتين، ثمّ انتخب من بعده هادي البحرة في 9/7/2014 لولاية واحدة، ثم خالد خوجاً في 5/1/2015 لولايتين، ثم أنس العبدة في 5/3/2016 لولايتين، ثم رياض سيف في 6/5/2017، وما زال في موقعه حتى الآن.
وشهد الإئتلاف خلال مسيرته عدداً كبيراً من حالات الاستقالة وحالتين من حالات الإقالة، لكن الظاهرة الأبرز كانت ظاهرة تجميد العضوية وظاهرة الاعتكاف و(الحرد). حيث عمد عددٌ من الأعضاء إلى تجميد عضوياتهم لفترات مختلفة، وقام بعضهم بتجميد عضويته لثلاث أو أربع مرات. لكن الملاحظ أن ارتفاع ظاهرة تجميد العضوية لم يترافق مع استقالة هؤلاء الأعضاء، رغم الحجج العديدة التي كانوا يسوقونها في كل مرة لتبرير قراراتهم. كما يُلاحظ أن تجميد العضوية كان يتم في الغالب عبر وسائل الاتصال الاجتماعي وليس عبر الطرق النظامية الداخلية.
وبالتوازي مع ظاهرة (الحرد) التي عبّر عنها سلوك تجميد العضوية، شهد الإئتلاف ظاهرة الاعتكاف والنأي بالنفس، دون تقديم الاستقالة، حيث عمد العديد من أعضاء الإئتلاف، وبعضهم رؤساء سابقون، إلى الامتناع عن حضور أي نشاط أو اجتماع للإئتلاف منذ سنوات، دون أن يقوموا بتقديم استقالاتهم منه، قائلين أن الائتلاف لا يستحق أن يقدم له طلب استقالة.
وبالمقابل، قام عدد من الأعضاء بتقديم استقالات رسمية، ومن أبرز هؤلاء ميشيل كيلو وعلي صدر الدين البيانوني وأحمد الجربا.
ثانياً: أبرز الإنجازات
استطاع الإئتلاف خلال سنواته الخمسة الماضية تحقيق عدد من الإنجازات على الصعيدين السياسي والإنساني، إضافة إلى بعض الإنجازات على المستوى الخدماتي. ويمكن إبراز أهمها فيما يلي:
1. تمثيل المعارضة السورية سياسياً
قام الإئتلاف بعيد تأسيسه بافتتاح ممثليات في عدد من الدول (حملت أسماء سفارات). وكان أبرز هذه الممثليات في الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وبلجيكا وقطر. وحصلت الأخيرة وحدها على صفة السفارة الفعلية، بعد أن قامت الحكومة القطرية بالاعتراف بها كسفارة ممثلة للسوريين، ومنحتها الحقوق الدبلوماسية الكاملة.
توقّفت معظم السفارات عن العمل في عام 2014 و2015، لأسباب تتعلق بانقطاع الدعم المالي، والذي كان متوفراً إبان فترة تولي مصطفى الصباغ الأمانة العامة في عهد معاذ الخطيب، وإبان ولاية أحمد الجربا، كما جاء التوقف نتيجة للخلافات والصراعات بين مكوّنات الإئتلاف.
2. تمثيل المعارضة في مفاوضات جنيف 2
مثّلت مفاوضات جنيف 2، والتي بدأت أعمالها في 22/1/2014 واحدة من أهم محطات الإئتلاف، حيث كانت المرة الأولى، والأخيرة حتى الآن، لتمثيل متساوٍ ومباشر بين طرف معارض واحد ونظيره من النظام السوري. ثم تحوّلت المفاوضات بعد ذلك إلى أشكال غير مباشرة، ولم يعد الإئتلاف، أو وفد الهيئة العليا من بعدها، منفرداً بالتمثيل.
وأدّت هذه المشاركة إلى رفع شعبية الإئتلاف أثناء فترة المفاوضات بشكل كبير، إلا أنها كانت موضع خلاف داخل الإئتلاف نفسه، حيث قام (44) عضواً بتجميد عضويتهم احتجاجاً على هذه المشاركة، التي تمنح “العالم المتآمر على الشعب السوري والثورة السورية الحجة ليفرض قرارات جنيف” وفقاً لما جاء في رسالة المعترضين. وكان من بين هؤلاء نصر الحريري، الذي أصبح لاحقاً رئيساً للوفد المفاوض في مباحثات جنيف التالية، وجورج صبرا، الذي أصدر بياناً يُعلن فيه خروج المجلس الوطني من الإئتلاف، وهو اليوم نائب رئيس الهيئة العليا للمفاوضات!!.
3. الوصول إلى تفاهمات مع أطياف معارضة أخرى
تمكّن الإئتلاف من التوصل إلى تفاهمات مع هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي ومع قوى المجلس الوطني الكردي، وشارك الائتلاف الوطني المجلس الوطني الكردي في صياغة وإقرار وثيقة مشتركة بينهما تم على أساسها انضمام المجلس الوطني الكردي الى الائتلاف وأصبح مكوناً من مكوناته في العاشر من نوفمبر2013، كما شارك مع هيئة التنسيق وقوى سياسية أخرى في صياغة “مسودة وثيقة البنود العشرة” في القاهرة عام 2015، وتم إجراء تعديلات وإقرار للوثيقة في مؤتمر باريس الذي جمع بين ممثلين عن الائتلاف الوطني وهيئة التنسيق، واتفقا فيها على “خارطة طريق للحل السياسي”، تنص على أن مرجعية الحل السياسي يجب أن تُبنى على أساس مخرجات مؤتمر جنيف 1 والقرارات الدولية المتعلقة بالقضية السورية.
وساعدت تفاهمات الإئتلاف على تعزيز الخطاب الوطني داخل المعارضة السورية، وبناء أسس للتفاهم مع أكبر طيف من السوريين، حتى ممن يختلفون مع بعض المبادئ المؤسِّسة للإئتلاف نفسه!.
4. تمرير مشاريع إنسانية وإغاثية
رغم أن العمل الإنساني والإغاثي لا يندرج ضمن مهام الإئتلاف الأصلية، إلا أن تقديم الدعم تحوّل إلى واحدة من مهامه الأساسية. وأنشأ الإئتلاف لهذا الأمر، وبطلب من الداعمين، وحدة خاصة في عام 2012، حملت اسم وحدة تنسيق الدعم AUC، وتولّت رئاستها سهير الأتاسي.
حصلت الوحدة على ملايين الدولارات من المساعدات (بلغت قيمة إحدى شحنات الطحين التي تلقتها الوحدة من السعودية أكثر من 300 مليون دولار)، كما رصد القطريون مبلغ 100 مليون دولار لتمويل مشاريع الوحدة التنموية، وأشرفت خلال عملها على عدد من المشاريع الإنسانية. كما يُحسب للوحدة أنها كانت رائدة في مجال المشاريع التنموية، والتي قصّرت معظم المنظمات الإغاثية في دعمها.
وبسبب طبيعة عمل الوحدة، فقد تحوّلت إلى نقطة صراع بين المكونات الرئيسية في الإئتلاف، سعياً للسيطرة عليها، وتوجيه الدعم المتوفر فيها لفئات تخدم مصالح كل مكوّن. واستغلت رئاسة الوحدة الضغط الدولي لمنح الوحدة استقلالاً إدارياً عن الإئتلاف في تحوّل الوحدة إلى كيان شبه مستقل، شابته الكثير من الإشكالات الإدارية والتنظيمية والمالية.
ثالثاً: أبرز الإخفاقات
مما لا شكّ فيه أن الإئتلاف لم يعد موضع تأثير حقيقي في المشهد السياسي السوري اليوم، وأصبح تأثيره محدوداً حتى داخل الوسط المعارض نفسه، كما فقد اهتمام داعميه الدوليين والإقليميين، ولم يعد قادراً حتى على عقد اجتماعات مع مسؤوليين رفيعي المستوى من الدول الصديقة له.. إلى غير ذلك من مؤشرات انحسار قدرة الإئتلاف على التأثير والإنجاز.
ويمكن إجمال أبرز أسباب الإخفاق في البنود التالية، والتي تحاول كل منها اختصار عدد كبير من الأحداث التي مرّ بها الإئتلاف خلال السنوات الخمسة الماضية.
1. الفشل في بناء رؤية
تُشكّل الرؤية نقطة الارتكاز لأي مشروع أو مؤسسة، ولا يمكن بدونها الوصول إلى الأهداف المرجوّة، ناهيك عن صياغة هذه الأهداف!.
وقد فشل الإئتلاف بشكل واضح في صياغة رؤيته الخاصة لسورية ما بعد الأسد، ولم تتمكن هيئته السياسية من بناء مشروع متكامل لما يتطلع إليه مناصرو الإئتلاف، رغم أن هذا السؤال كان حاضراً تقريباً في كل لقاء قام به الإئتلاف مع ممثلي الدول.
وأدّى غياب الرؤية إلى تحوّل بوصلة الإئتلاف تبعاً لتوجهات رئيسه والانتماءات الإقليمية التي يحملها، ومحاولة الإئتلاف ككل استشفاف التوجهات الدولية في كل مرحلة للتعاطي معها، دونما رؤية ذاتية تُحدد المسار بغض النظار عن المعطيات الآنية.
2. الاستغراق في المناكفات الداخلية
استغرقت المناكفات الداخلية والصراعات بين الكتل على المناصب والمكاسب كثيراً من وقت الإئتلاف، حتى أن الهيئة السياسية، وهي أعلى سلطة في الإئتلاف، كانت تمضي أسابيع من الاجتماعات المتتالية، دون حضور أي شأن سوري عام على أجندتها!.
وهيمنت عقلية الصراعات على الأعضاء، فلم يعد الاجتماع المتعلق بالشأن السوري العام (لمناقشة قضية حساسة كالمعتقلين مثلاً) يجمع أكثر من عشرين عضواً، فيما يحضر كل الأعضاء تقريباً الاجتماعات ذات الطابع الداخلي، ويعمل فيها الأعضاء الغائبون على تأمين حضورهم عبر وسائل الاتصال، أو على الأقل عبر توكيل أصواتهم إلى آخرين.
وأدّت المناكفات بين الكتل إلى تعطيل عمل مؤسسات الإئتلاف نفسه مرات عديدة، بما في ذلك الحكومة المؤقتة وهيئة تنسيق الدعم والسفارات والممثليات، كما أدّت إلى توقف المشاريع وتعطيل صرف المنح المقدّمة من الدول للشعب السوري.
وعلى سبيل المثال لم تتمكن وحدة تنسيق الدعم بسبب الصراعات الداخلية من صرف منحة إنسانية قطرية سنوية بقيمة 100 مليون دولار، وما زال في حساب وزارة الخارجية القطرية مبلغ 26 مليون دولار لم تصرف من المنحة الأولى. فيما قامت رئاسة الإئتلاف في مرحلة لاحقة بالضغط من أجل وقف عملية صرف جزء من المبلغ المتبقي لصالح الحكومة المؤقتة، ضمن المناكفات بين كتل الإئتلاف المختلفة.
3. الاعتماد على الأفراد والكتل الوظيفية
تشكّل الإئتلاف في معظمه من أفراد ومجموعات لا تشترك في إطار فكري وسياسي حقيقي، وانتظم معظم أعضائه لاحقاً في كُتل وظيفية ترتبط بأشخاص يمتلكون نفوذاً مالياً أو سياسياً، وحملت هذه الكتل أسماء هؤلاء الأعيان. وكان بعض رؤساء الكتل يقومون بصرف رواتب منتظمة لأعضاء كتلهم، فيما كان آخرون يقدمون منحاً مالية غير منتظمة أو مكافآت غير مالية، وفقاً لإمكانيات كل منهم.
وأدّى هذا النوع من الأعضاء والكتل إلى ارتكاز التحالفات والصراعات على أسس شخصية، وسعى كل فرد إلى تثبيت موقعه داخل كتلته، وتأمين مكاسبه في المحاصصات الثابتة نسبياً (كعضوية الهيئة السياسية، أو رئاسة المكاتب.. إلخ)، أو المحاصصات الآنية (كمشاركة في وفد بعينه..).
4. غياب الشفافية والحوكمة الرشيدة
استلم الإئتلاف الوطني منذ تأسيسه وحتى اليوم مبالغ مالية ضخمة، تُقدّر بحوالي (200) مليون دولار، ولا تشمل هذه المبالغ ما استلمته وحدة تنسيق الدعم، والتي زادت مدخلاتها النقدية والعينية عن هذا المبلغ بعدّة أضعاف.
لكن الإئتلاف فشل في إيجاد نظام مالي وإداري واضح، حتى بالنسبة لقيادته. إذ أن معظم هذه الأموال لم تدخل إلى صندوق الإئتلاف أصلاً، ففي عهد معاذ الخطيب كانت المنح تذهب مباشرة إلى الأمين العام مصطفى الصباغ، والذي كان يقوم بتغطية النفقات من خلال مؤسسته “المنتدى السوري للأعمال”، ولم يقم بتسليم أي تقارير مالية لخلفه، فيما تحوّل استلام المنح وإنفاقها إلى الرئيس في المراحل التي تلت مغادرة الخطيب لموقعه، حيث تودع المنح في الحساب البنكي للرئيس، أو لمجموعة أعضاء لأن الإئتلاف لا يملك حساباً بنكياً أصلاً.
وتشير مراجعات الأداء المالي والإداري للإئتلاف أن الأمين العام ثم الرئيس لاحقاً كان يملك صلاحيات شبه مطلقة في إصدار أوامر الصرف، دون الرجوع إلى الهيئة السياسية أو حتى إلى الأمين العام. لكن هذا الأمر تغيّر في الآونة الأخيرة، حيث تم اعتماد مبدأ الصرف بعلم الهيئة.
وتمكّن رؤوساء المكاتب بدورهم من استخدام مخصصاتهم المالية لتوسيع كوادر عملهم وإجراء العقود الخارجية دون الرجوع إلى الهيئة السياسية، وتضخّمت بعض المكاتب، كالمكتب الإعلامي، ليصل عدد موظفيه إلى أكثر من 70 موظفاً، كثير من المستشارين وحتى الأجانب من غير الناطقين بالعربية.
وبالمقابل، عملت وحدة تنسيق الدعم، وبضغط خارجي، على توظيف شركة أجنبية لتدقيق الحسابات، في عقد وصلت قيمته السنوية إلى أكثر من 300 ألف دولار، رغم وجود العديد من البدائل السورية والإقليمية بأسعار تقل عن هذا المبلغ بكثير.
5. أزمة التمثيل
تَشكّلَ الإئتلافُ من محاصصات بين عدد من الكيانات والتجمعات والأفراد، وفقاً للمعادلة السورية آنذاك، وتمّ توزيع المقاعد في الإئتلاف بين هذه المكوّنات، حيث حصل كل مكوّن على عدد من المقاعد الثابتة، مغ إمكانية قيام المكون بتغيير ممثليه في الإئتلاف إن رغب.
وبطبيعة الحال فإنّ اختيار المكوّنات الممثلة، واختيار عدد المقاعد المخصص لها، خضع لاعتبارات المحاصصة بين المتفاوضين في الدوحة آنذاك، وقدرتهم على المماحكة، ومقدار الدعم الإقليمي والدولي المتوفر لكل منهم.
وقد أدّى هذا الأمر إلى منح مجموعات غير موجودة عملياً أو ذات وجود محدود للغاية مقاعد في الإئتلاف، نظراً لأنها تتبع لأحد مراكز القوى. فتمّ منح (14) مقعداً للمجالس المحلية غير المنتخبة أو حتى غير الموجودة أصلاً، كالمجالس المحلية في دمشق وطرطوس، والحسكة ودير الزور والرقة!
ورغم إجراء انتخابات لاحقاً لمجالس محلية في حلب وحماة وديرالزور وغيرها، ومطالبة هذه المجالس بمقاعدها في الإئتلاف، إلا أن الإئتلاف تجاهل عشرات المراسلات من هذه المجالس، واحتفظ بممثلي المجالس المحلية الذين تم اختيارها عند التأسيس.
وأسفر التغيّر المستمر في الخريطة السياسية والميدانية عن انتهاء مجموعات كانت قائمة عند التأسيس، مثل “مجلس أمناء الثورة”، و”الهيئة العامة للثورة”، ولكن ممثليها حافظوا على مقاعدهم. كما أن المجلس الوطني، والذي شكّل الكتلة الأكبر في الإئتلاف عند تأسيسه بثمانية عشر مقعداً، انتهى عملياً، ولم ينعقد منذ تأسيس الإئتلاف، وينطبق على المجلس ما ينطبق على المجموعات المنتهية.
وترتبط أزمةُ التمثيل بالنظام الداخلي، والذي شكّل مصدراً لعجز الإئتلاف عن القيام بمهامه كما يجب، ومصدراً في الوقت نفسه لحماية الأعضاء أنفسهم من المحاسبة أو حتى العزل. ووفقاً للنظام، فإنّ إقالة رئيس الائتلاف أو الأمين العام تحتاج الى ثلثي الأصوات، بينما يحتاج العضو إلى نصف الأصوات زائد واحد، وهو أمر يصعب الحصول عليه نظراً للحساسيات والتوازنات بين الكتل.
كما يحصر النظام الداخلي مسألة استبدال الأعضاء بقرار كتلهم الأصلية، وبالتالي فإنّ على جماعة الإخوان المسلمين على سبيل المثال إذا أرادت تغيير أحد أعضائها أن تعود لكتلة المجلس الوطني، وهذا يعني استدعاء المجلس للانعقاد، وهو ما لا يمكن أن يحصل، وعليه فإنّ على الجماعة أن تلتزم بنفس الأعضاء الذين تم تعيينهم بالأصل.
كما عجز الإئتلاف بسبب نظامه الداخلي عن استبدال الأعضاء الذين تقدّموا باستقالاتهم مطلقاً، أو فصل الأعضاء الممتنعين عن المشاركة في أنشطته منذ سنوات إلا مؤخراً.
ولا يُحدّد النظام الداخلي الكثير من التفاصيل التنظيمية والإدارية، الأمر الذي أتاح للجنة القانونية هامشاً واسعاً للتأويل وإصدار الاجتهادات القانونية، والتي تنظر إليها الأطراف المتضررة من هذه التفسيرات باعتبارها تكريساً لإرادة الكتل المسيطرة على قيادة الإئتلاف في كل مرحلة، ولعل أشهر مثال على ذلك قيام اللجنة القانونية بتمرير قرار المشاركة في مفاوضات جنيف2، رغم أن النظام الداخلي للائتلاف ينص على منع التفاوض.
6. الفشل في إدارة الملف العسكري
مثّل العمل العسكري بالمجمل واحداً من أبرز أسباب إفشال الإئتلاف وواحداً من أبرز مظاهر فشله. حيث قامت الدول التي موّلت الفصائل المسلحة بتجنّب المرور عبر البوابة السياسية، الأمر الذي منع الإئتلاف من الحصول على أي قوة ميدانية، وأعاق انضواء الفصائل تحت أي مظلة سياسية، وحوّلها عملياً لقوى سياسية منافسة للمظلات التي اعتمدها المجتمع الدولي نفسه.
وأمام إسهام داعمي الفصائل في إفشال المجلس والإئتلاف من بعده في هذا المجال، فشل الإئتلاف نفسه في التعامل مع الفصائل المسلحة، وشكّل ملف تمثيل القوى العسكرية واحداً من أبرز الإخفاقات في عمل الإئتلاف.
أدّت التوسعة التي أُقرّت يوم 31/5/2013 إلى انضمام هيئة الأركان بخمسة عشر عضواً إلى الإئتلاف، لتكون أول خطوة يُمثّل فيها الجانب العسكري للثورة السورية في الهيئات السياسية. إلاّ أنّ هذا التمثيل لم يُرضِ الفصائل التي لم تر في هيئة الأركان ممثلاً لها أصلاً، كما تحوّل بعض ممثلي الهيئة في الإئتلاف إلى جزء من الصراعات السياسية الموجودة أصلاً، وبالتالي فإنّهم لم يتمكّنوا من تمثيل المكون العسكري على النحو الذي تقبله الفصائل.
وشهد عام 2015 بداية علاقة تنسيقية بين الإئتلاف وبعض الفصائل. ففي 25/4/2015 عُقد الاجتماع التشاوري الأول بين الإئتلاف الوطني وعدد من الفصائل العسكرية (وكيانات ميدانية أخرى)، وتم الاتفاق في نهايته على تشكيل “لجنة لمتابعة وتنسيق الشؤون المشتركة” . وتلا ذلك اللقاءات عدد من اللقاءات المماثلة، بالإضافة إلى اجتماعات للجنة المتابعة والتنسيق.
وفي 15/6/2015 قرّرت الهيئة العامة للائتلاف الوطني السوري تشكيل القيادة العسكرية العليا، بما “يضمن تمثيل الكتائب والفصائل الفاعلة على الأرض”، وكما قررت تشكيل لجنة للعمل على تشكيل القيادة الجديدة اعتماداً على معايير تم التوافق عليها، بالإضافة إلى تجميد المجلس العسكري الأعلى للأركان والإبقاء على ممثلي كتلة الأركان داخل الهيئة العامة حتى تشكيل القيادة الجديدة ما نجم عنه انتقال ولاء ممثلي كتلة الأركان الى د. خالد خوجة وضمانه ولاية ثانية في رئاسة الائتلاف.
وساعدت هذه اللقاءات على إصدار مواقف سياسية مشتركة، كما في 28/9/2016 و2/10/2015 و23/1/2016 على سبيل المثال.
ويُلاحظ أن اقتراب الفصائل من الإئتلاف بعد عام 2015 وحتى الآن ارتبط بانحسار مكانة هذه الفصائل أصلاً، وغياب قدرتها على الإنجاز، وتحوّل معظمها إلى كيانات صغيرة تبحث عن غطاء شرعي يمنع استهدافها أو استئصالها!.
7. أزمة الشرعية وغياب الإنجاز
أدّى استغراق مؤسسات الإئتلاف ومكوناته بالمناكفات الداخلية من جهة، وغياب الرؤية من جهة أخرى، إلى محدودية الإنجاز بشكل ملفت، وبصورة لا تتناسب مع حجم الدعم السياسي والمالي الذي حصل عليه الإئتلاف، وخاصة في أول عامين من عمره.
وبدلاً من عمل الإئتلاف على المشاريع العملية الملموسة؛ عمد إلى تصعيد مستوى الخطاب السياسي لفظياً، ومحاولة التماهي مع الخطاب الثوري، فدخل خطابه الإعلامي في تنافس مع خطاب النشطاء على وسائل الإعلام الاجتماعي، في محاولة للحصول على شرعية ثورية يمكن أن تُشتت الانتباه عن غياب الإنجاز العملي.
الإئتلاف إلى أين؟
رغم التوقعات الكبيرة التي صاحبت تأسيس الإئتلاف، إلا أن أداءه كان متواضعاً بشكل كبير، مقارنة مع ما توفّر له من إمكانيات مالية وسياسية خلال السنوات السابقة.
ويظهر استعراض الأداء السياسي والإداري للإئتلاف أنه فشل في استيعاب دروس المجلس الوطني الذي سبقه، بل وأظهر تراجعاً عن المجلس من ناحية الدور السياسي والآليات التنظيمية الداخلية.
كما تظهر القراءة الحالية للمعطيات السياسية أن الإئتلاف انتهى عملياً كمؤسسة ممثلة للشعب السوري، وحتى كمؤسسة ممثلة للمعارضة السورية، حيث تحوّل في أفضل الأحوال إلى واحدة من منصات المعارضة المتعددة، وإلى منصة إعلامية تُحاول التنافس مع المنصات الإعلامية الثورية متوسطة الحجم.
ويواجه أعضاء الإئتلاف ممن ارتبط ظهورهم السياسي خلال السنوات السابقة بالإئتلاف حصراً مصيراً مجهولاً في المرحلة التالية، حيث لا يبدو أنهم يحظون بقبول جماهيري لدى أي شريحة من شرائح، كما لم يعودوا قادرين على تحصيل دعم إقليمي لشخوصهم، بما يؤهّلهم للتواجد ضمن محاصصات الدول المعنية بالملف السوري مستقبلاً.
المراجع:
* الإئتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، بيان مشترك حول آخر التطورات وتداعيات العملية السياسية في سورية، 2/10/2015
* الإئتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، الائتلاف والفصائل العسكرية يجددون تمسكهم بثوابت الثورة السورية، 23/1/2016