وضعت على القائمة السوداء للنظام السوري، فهي من عجلت بالانشقاق عن «الدراما الرسمية» لتنحاز للثورة في عام 2011، وتهتف في ميادينها الأولى «واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد» دون التفاف للأثمان التي ستدفعها، إنها الفنانة السورية اللاجئة والمعتقلة سابقًا «مي سكاف».
تركت مي نجوميتها الفنية في الدراما والمسرح والسينما، وانتقلت مجردة من كل شيء إلا حب سوريا وبغض «نظام الأسد»، فاعتقلت ثم خرجت لاجئة من سوريا، وفي اللجوء لم تترك هم الوطن، فكانت تارة تقص على جيرانها الفرنسيين قصصًا عن سوريا، وتارة أخرى تقود مظاهرةً في بلد اللجوء لنصرة قتلى مجازر الكيماوي أو اللاجئين، حتى رحلت دون أن ينل اليأس منها ولو برهة صغيرة، وبقيت شوكة قوية تؤرق النظام السوري.
منذ ولادة الثورة حتى رحيل الجسد.. مي ضد النظام السوري
«حيوا الفنان الي ما بخاف.. يلا نحيي مي سكاف»، ذاك الشعار الذي رفعه الثوار في حماة السورية قبل أن يكوى معظمهم بـ«نار» النظام، كان يحمل الكثير من المعاني الثورية، لقد كان وجود ودعم الفنانين السوريين في الميدان من أعظم ما دعم الثوار بشكل عام، أما وجود الفنانة مي سكاف فكان دعمًا بشكل خاص، فسرعان ما انضمت مي إلى الداعين إلى رحيل «بشار الأسد»، وقادت الراحلة -جسدًا- بالأمس مجموعة من الفنانين والمثقفين بمظاهرات عدّة في بدايات الثورة.
مي سكاف في تظاهرة خلال لجوئها (المصدر: شبكات التواصل الاجتماعي)
كانت السيدة ذات الوجه الغاضب من النظام تمنحهم الكثير من القوة والإيمان بالثورة، أما هي فلم تكتف بأن تخرج مرة أو مرتين كي تبرز إعلاميًّا أنها مع «الجمهور»، فقد استمرت بالخروج في المظاهرات مؤمنة بأن «العار» هو البقاء مع هذا النظام القائم بتاريخه على القمع والقتل والتضييق على المواطنين بحسبها، ولذلك دفعت الثمن عاجلًا، اعتقلها النظام في موطنها الجديد بعد الثورة، في مظاهرة سلمية نظمت في حي الميدان وسط العاصمة دمشق، كانت حينها تتوسط الكادحين والمثقفين والفنانين والنساء والأطفال، اعتقلت أول مرة في الثالث عشر من يوليو (تموز) 2011، أي بعد أربعة أشهر من اندلاع الثورة، لكن النظام أطلق سراحها مع تحديد موعد لمحاكمتها.
ولأن مي لم تفكر في الخروج من سوريا، وبقيت في بيتها الواقع قرب سفح جبل قاسيون تتحمل المضايقات اليومية من النظام ومؤيديه، اعتقلها النظام مرة أخرى في مايو (أيار) 2013، لكن عقب إطلاق سراحها هذه المرة أجبرت تحت إلحاح ذويها على الخروج من سوريا، وما جعلها تستجيب لهذه الضغوطات هو الكم الكبير من التحضيرات «الأمنية» التي أحيكت ضدها من أجهزة النظام، فقد صدر بحقها مذكرة قبض في «محكمة الإرهاب»، والتهمة «الاتصال بإحدى القنوات الفضائية ونشر أنباء كاذبة»، كما حذرها اثنان من كبار المسؤولين الحكوميين بأنه إذا لم تهرب فسيتم قتلها، فتركت سوريا على مضض وبحزن شديد، لذا قالت مي: «صدرت بحقي تسع تهم إرهاب، من بينها الخيانة العظمى؛ اضطررت إلى الخروج، تحت تأثير عاطفي من أمي وأختي وأهلي وأصدقائي. مررت بكل التعب الذي يمر به أي لاجئ، وفي النهاية أنا مجرد لاجئة، يعني مجرد رقم».
يذكر أن مي سكاف ولدت في الثالث عشر من أبريل (نيسان) عام 1969، ودرست الأدب الفرنسي في جامعة دمشق التي بدأت فيها أيضًا عملها المسرحي حين شاركت عام 1991 في أعمال مسرحية على مسرح الجامعة، لكن الجمهور العربي عرفها في الأعمال الدرامية التي كان آخرها مسلسل «أوركيديا» الذي عرض في شهر رمضان عام 2017، كذلك تركت مي مشاركات في الحقل السينمائي، في عام 1991، اختارها المخرج السينمائي ماهر كدو لبطولة فيلمه «صهيل الجهات»، ثم اختارها المخرج عبد اللطيف عبد الحميد في فيلم «صعود المطر»، وفي العام الأخير عادت إلى السينما من خلال فيلم قصير «سراب» الذي صور في العاصمة الفرنسية باريس، ورحلت مي في 23 يوليو 2018 عن عمر يناهز التاسعة والأربعين، بسبب جلطة في الدماغ، رحلت بعد شهر ونصف من وفاة أمها، وبعد أربعة أشهر من وفاة شقيقتها بمرض السرطان.
«أيقونة الثورة».. من حياة الترف إلى حياة الملاحقة
«أيقونة الثورة الصامدة»، و«الفنانة الثائرة»، و«الفنانة الحرة»، و«أيقونة الثورة»، لقبت مي سكاف بهذه الألقاب قبل مماتها؛ لأنها من وجهة نظر العديد من المعارضين السوريين والمتعاطفين مع الثورة السورية جسدت هذه الألقاب منذ انطلقت الثورة، كانت تؤكد دومًا أن النظام السوري ومنذ عهد حافظ الأسد هو نظام قائم على التفرقة واستغلال الأقليات، في إشارة منها إلى أن النظام ينتهج تكتيكات الخوف للحفاظ على الدعم بين الأقليات.
مي سكاف خلال تصوير عمل فني (المصدر: موقع العالمية)
الفنانة التي أضحت ناقدة لاذعة لنظام بشار الأسد في فرنسا، كان أجرها قبل الثورة من أعلى الأجور التي يحصل عليها زملاؤها، وحين عاشت لاجئة في شقة متواضعة كانت تدبر أمورها المادية من التبرعات التي حصلت عليها من أصدقائها، فلم يكتف النظام في بداية الثورة من منعها من العمل والسفر واعتقالها وإيكال التهم الخطيرة بحقها، إذ سارع إلى تخريب مسرح «تياترو» الذي أسسته ونهبه.
تقول مي عن هذا المسرح: «أحس أن هذا هو مشروع عمري، كان المشروع ثورة بحد ذاته، حاولت من خلاله أن أبني منبرًا حرًّا ومستقلًا في البلد، وأحيانًا أشبّه تياترو بالثورة؛ فهو مسرح حاول أن يصنع ثورته الخاصة به، عانى من قمع النظام وهيمنة المؤسسة الأمنية قبل الثورة، وحين وقفت إلى جانب الثورة؛ خربه الأمن العسكري وسرقه الشبيحة (نبيل صالح وزوجته رحاب ناصر)»، أما بيتها في جرمانا بريف دمشق فقد استولت عليه ما تعرف باللجان الشعبية (التابعة للنظام السوري) عام 2014، وسكنه أحد عناصرها مع عائلته بعد كسر القفل وتغييره.
ضربت مي بعرض الحائط كل الخسائر التي نالت منها، وواصلت التحدث بانتظام عن الأوضاع في الداخل السوري، فكانت لا تترك حدثًا إلا تكتب عنه على وسائل الإعلام الاجتماعية تارة بحدة، وأخرى بحزن شديد، كما أنها لم تتوقف عن العطاء الفني، لفضح جرائم النظام السوري، وصمت المجتمع الدولي عليها، فإضافة للمشاركتها بفيلم «سراب» الذي سبق وأشرنا إليه، شاركت في الفيلم القصير «ميراج» خلال فترة وجودها في باريس، وتدور قصة الفيلم حول امرأة سورية أجبرت على مغادرة البلاد إبان الثورة، وعن حقبة ما بعد اللجوء تتحدث مي فتقول: «صحيح أننا تهمشنا، وكل منا أصبح في بلد، وأغلبنا عاجز عن فعل أي شيء، سوى أن يجلس ويستمع إلى الأخبار، لكن يجب أن يبقى موقفنا ثابتًا من أجل الشهداء، ومن أجل الذين يعانون -حتى اللحظة- تحت القصف والكيماوي في الغوطة، أو في حماة وريف حلب».
ولم تركن مي إلى الشعارات حتى الرمق الأخير، فقد دفعها التفكير المستمر بمناصرة الضعفاء في سوريا إلى اتخاذ قرار بتقديم نفسها فريسة للنمور في برلين، بغية إيقاظ ضمير العالم لمسألة اللاجئين السوريين، فقالت عن هذه التجربة: «كنت أرغب أن أفضح وجه المدنية والتمدن في المجتمع الدولي، وأقول للسياسيين أخفوا وجوهكم من العار، وكان لعرض النمور صدى كبير، ولو سُمح لي بدخول القفص؛ لما ترددت، ولا يمكنك أن تتخيلي خوف الشرطة، حين قلت لهم لست أهم من غيري، كنت أمرّ بحالة من الإحساس بالعجز الذي يصل بنا إلى مرحلة أن ننهي حياتنا احتجاجًا على القهر والظلم».
لماذا حصدت مي كل هذا الحب والحزن؟
تمسكت مي سكاف بالأمل حتى الرحيل، فلم ينل منها اليأس بضياع مكتسبات الثورة السورية، وأخذت تحلم بمستقبل سوري جميل بعيدًا عن النظام، فكتبت في آخر منشور لها على فيسبوك: «لن أفقد الأمل.. لن أفقد الأمل.. إنها سورية العظيمة وليست سورية الأسد».
مي سكاف (المصدر: شبكات التواصل الاجتماعي)
وسبق أن قالت في حوار صحافي لموقع «جيرون» السوري: «هناك الكثير من السوريين الذين لا يزالون مضللين بادعاءات النظام، حول المؤامرة الكونية التي تستهدف البلد. ثباتنا ليس ترفًا ولا فذلكة مثقفين، أو أناس لم يعيشوا الثورة. نحن جزء من الحراك الثوري، عشنا القصف والوجع والدم الذي هُدر، عشنا مختلف الضغوط والسجن. نحن جزء من أناس أرادوا أن يكون لهم صوت، وصوتهم شكّل خطرًا على النظام الذي أثبت همجيته بكل الأساليب».
لذلك يمكنا التساؤل: لماذا حصدت مي كل هذا الحب أو الحزن الذي ظهر بعد رحيلها؟ يجيب الكاتب السوري عدنان عبد الرازق بالقول: إن «مي سكاف، وكثيرين مثلها، دحضوا أهم مقولات الأسد ومبرراته لقمع الثورة، وادعاءه بأن الثورة إسلامية وطائفية، فمي سكاف المسيحية كانت تخرج من جوامع الميدان وكفرسوسة مطلع الثورة، وتهتف إلى جانب المتظاهرين: (واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد)».
ويضيف في مقاله «الأوجاع الخمسة برحيل مي سكاف»، أن: «مي سكاف، ومن قلة قليلة، لم تنطل عليها فزاعة الإرهاب وأسلمة الثورة، ففي حين انزوى كثيرون، بعد أن أيدوا الثورة بمطلعها وخرجوا مع السوريين بتظاهراتهم، وانكفؤوا تحت تأثير فزاعة الإسلاميين وسنية الثورة، قالت مي سكاف: هل من يساعد امرأة وممثلة مسيحية هم إرهابيون؟ إن كانت مساعدة الناس والوقوف بجانبهم إرهاب، فإن الإرهاب على رأسي».