منذ ثورة 1925 ضد المستعمر الفرنسي، لم تقم حركة شعبية في سوريا بهذه القوة إلا ثورة 2011، التي بلغت اليوم سن العاشرة، وهي لا تزال واقفة بوجه نظام الأسد الذي تحوّل إلى نظام استعماري داخلي يحمي مصالح إيران وروسيا، ويدمّر موارد الناس بلا رحمة حفاظًا على آلهة التمر الأسدية.
لم تنفع المطالبات السلمية بداية الثورة في إقناع النظام بالتغيير، بل كان العام 2012، وقبل ظهور سرطان “داعش”، من أشد أعوام التعذيب حتى الموت ضد الناشطين السلميين لدفع القوى الشعبية إلى رفع السلاح، والوقوع تحت دائرة التدمير الشامل التي بيّتها النظام ضد الشعب السوري، وكان قد تدرب عليها في مدينة حماة 1982 وقبلها في حلب وإدلب 1980 إبان حكم الأسد الأب، الذي رفض التنازل أمام مطالبات النقابات والأحزاب وحركة “الإخوان المسلمون”، ما حوّل تلك الأحداث إلى معركة بين تنظيم “الطليعة” الإرهابي و قطعات الجيش الانكشاري التي يقودها رفعت الأسد وعلي حيدر وشفيق فياض، بالإضافة إلى إطلاق توحش المخابرات العسكرية التي كان يقودها علي دوبا، وغيرها من أجهزة المخابرات.
لم تكن ثورة “البعث” في 8 من آذار 1963 إلا انقلابًا عسكريًا، وكذلك حركة 23 من شباط 1966، والحركة التصحيحية 1970، وهذه الانقلابات العسكرية التي كانت قد بدأت منذ انقلاب حسنى الزعيم 1949 هي التي أوصلت سوريا إلى هذا الخراب العميم، الذي لم يشهد تاريخ سوريا مثيلًا له منذ أيام التتار والمغول.
لقد كان لقوات “الحرس الثوري الإسلامي الإيراني” وميليشياتها الدينية أكبر دور في تشجيع النظام على الأعمال الوحشية ضد الناشطين والثائرين السوريين، وتفوقت تلك القوات والميليشيات الإيرانية على وحشية “داعش” بكل قسوتها، وبلغ الأمر بحسن نصر الله، الوكيل الإيراني في سوريا ولبنان، أن يمنع الخبز والدواء عن سكان ريف دمشق والقلمون بحجة أنهم إرهابيون ولا يستحقون غير قطع الأيدي كما يردد دائمًا في خطاباته العنترية.
وفي المرتبة الثالثة بعد جيش الأسد و”الحرس الثوري الإيراني” تأتي الوحشية الروسية المغرمة بتدمير المستشفيات والمدارس، وبالتصريحات الطائفية لوزير خارجيتها، بالإضافة إلى القنابل والصواريخ، وتعطيل قرارات الأمم المتحدة بـ”الفيتو” الروسي الذي تفرغ لحماية بشار الأسد، ولوصم الشعب السوري بالإرهاب، وتسهيل ترحيله من مدنه وقراه وفق هندسة طائفية ابتكرتها إيران ليطلق عليها بشار الأسد عملية الشعب المنسجم.
لا نريد أن نسترجع سجل الجيش الأسدي في انتهاكاته ضد السوريين من التعذيب حتى الموت إلى البراميل المتفجرة والقصف بالكيماوي وتدمير المدن والترحيل الطائفي وإطلاق نواة “داعش” وتشجيعها على الانتشار والمتاجرة معها، ولكن لا بد من وضع التهم ضد قادة هذا الجيش الذي تفرغ لعبادة عائلة الأسد، ولا بد من لحظ هذا السلوك عند إعادة النظر في تركيبة هذا الجيش وعقيدته المعادية للمدنيين وللناس وللدستور عبر عشرات السنين من الانتهاكات الوحشية ضد حرية السوريين وضد بناء سوريا حرة تحترم المواطن ولا تناديه بألفاظ فاحشة يرددها ضباط الأسد وعناصره.
يحاول نظام الأسد اليوم إعادة الجيش إلى الواجهة، وغسيل جرائمه بحجة المحافظة على الوحدة السورية وعلى عائلة الأسد كرمز لوحدة سوريا، بناء على توصيات الأسد الأب الذي هدد بغياب سوريا عن الخارطة إذا هدد السوريون حكم عائلة الأسد.
ورغم كل الخراب فإن النظام يركز على ثلاثة محاور من أجل استمراره، وهي إعادة انتخاب بشار الأسد، وإبقاء الصلاحيات المطلقة للجيش ومخابراته، ومنع أي فرصة لتوسيع الحكم المحلي للسكان أو تخفيف صلاحيات المركزية الرئاسية للنظام كي يبقى مهيمنًا على حياة السوريين مستقبلًا، وهذه العوامل هي التي يحميها المحتلون الروس بكل قوتهم، أما الإيرانيون فيفضّلون بلدًا مفككًا على شاكلة لبنان يبنون فيه مستوطناتهم الطائفية التي تتحكم مستقبلًا بقرارات الحرب، والاقتصاد، والممرات البرية والبحرية.
وفي السنة العاشرة، تفككت قوى الثورة السورية وصار كثير من ناشطيها عبارة عن وكلاء للدول الأخرى، ولم تنهض حركة توحد السوريين خلف أهدافهم التي نادوا بها في آذار 2011 ، وتقوقعت الأحزاب القديمة على نفسها، مثل حزب “الإخوان المسلمون” وحزب “الشعب” اللذين فشلا في اجتذاب جمهور الشباب وتوسيع أفق الممارسة السياسية التي لا تزال تعيد نفسها منذ عشرات السنين، وتبخر تأثير التنسيقيات التي كان لها دور بارز في بداية الثورة، أما الأحزاب الجديدة فكثير منها عبارة عن نسخ سرطانية عن أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية التي لا يعرف أحد عنها شيئًا إلا أمينها العام الذي يناور بانتهازية، ويدير جمهوره القليل كأتباع له يستغل حاجتهم، وليس كبشر أحرار رغم كل البهارات السياسية الملونة التي ترتديها “بروشورات” الحزب ومواقعه على “فيسبوك” وغيره.
ولكننا اليوم ورغم كل هذا الخراب، لا نزال متفقين على رفض استمرار الأسد، ورفض الإرهاب الديني، ورفض الاحتلالات بكل أشكالها، ولا نزال نحلم بوطن يحترم مواطنيه بكل تنوعهم القومي والطائفي، ويحترم القوانين ويحفظ حق المرأة، وحق الطفل، وحق السجين، ورغم قسوة الشتاء وحرارة الصيف في المخيمات، لا يزال الناس رافضين العودة إلى ابتزازات بشار الأسد، ولم يعودوا قادرين على تجرع أكاذيبه وأكاذيب غيره من المحتلين ومن وكلائهم.
لا تزال هذه الثورة شمعة للأمل في أعماق بلادنا التي يحتلها الظلام منذ عقود.