الثورة السورية بين نظرية المعرفة وحركة الواقع

يناير 4, 2023

أسامة آغي

مقالات

يبدو أنّ الغائب الأكبر في الثورة السورية هو نقدها بصورة منهجية علمية، فلا يمكن فهم الآليات التي تحكمت بهذه الثورة، والتي لا تزال تتحكم بها، دون معرفة للشروط الموضوعية والذاتية المتحكمة بمسارها ومآلاتها.

فالثورة كمفهوم، هي حدث ينتج عن انغلاق حركة تطور الواقع، بسبب سيادة نمط من العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. هذا النمط يكفّ عن القدرة على توظيف عناصر الواقع في الأنساق الثلاثة، بما يخدم مصلحة المجتمع كبنية واحدة.

أي إنّ البنية السياسية السائدة تصبح عائقًا حقيقيًا أمام تطور المجتمع بكل المجالات. هذه الإعاقة ناتجة عن افتراق مصلحة البنية الفوقية (السلطة) عن مصلحة المجتمع بعموميته، وبذلك نكون أمام بنيتين متناقضتي المصلحة والأهداف، وبالتالي فهناك اغتراب بينهما، اغتراب يوضح العنف والتوحش الذي مارسه النظام السوري ضدّ شعبه.

فحركة الاحتجاجات السلمية وجد فيها هذا النظام تهديدًا صريحًا ووجوديًا لبنيته، وهو دليل على القطيعة البنيوية بين السلطة (الدولة) وبين المجتمع، وتحديدًا قاعدته الشعبية الواسعة.

اللحظة الثورية التي تفجّرت فيها المظاهرات السلمية في سوريا لم تكن وليدة لحظتها الآنية آنذاك، كذلك لم تكن حدثًا مدبّرًا بفعل عوامل خارجية. فشروط الثورة موجودة في الواقع، ودلالاتها هي الفساد المستشري في بناء الدولة، والقمع المعمّم نتيجة تعطيل العمل بدستور وقوانين البلاد.

اللحظة الثورية إذًا هي نتاج تراكمات أحداث وقرارات وممارسات قام بها النظام السوري عبر تاريخه، ويمكن فهمها كلحظة تاريخية وفق قانون علمي يقول” التراكمات الكمّية تؤدي إلى تغييرات نوعية”.

ولكن في المقابل، هل فهمت قوى الثورة هذه العلاقة بين التراكم المادي والتغيير النوعي؟ نعتقد أن ذلك لم يحدث بالمعنى الفكري، وهو ما أدى لاحقًا إلى غياب بوصلة العمل الثوري، وعدم بلورة برنامج عمل واحد، كذلك لم تستطع قوى الثورة السلمية بناء قيادة عمل لها، تجنّبها منزلقات العمل المسلّح، وهذا ما جعل بعض قوى الثورة تقبل بحمل السلاح نتيجة دفع بعض دول الإقليم لهذا الخيار والمساعدة على الاندفاع فيه.

إذًا يمكننا أن نقول إن الشروط الموضوعية لانفجار الثورة السورية هي شروط كانت متوفرة في الواقع، ومن هذه الشروط الإحساس بالغبن الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والعلمي والثقافي، الذي تعيشه غالبية السوريين نتيجة نهج النظام السوري وهيمنته على الحياة في البلاد.

أما الشروط الذاتية فكانت أقل بكثير من درجة النضج الفكري والسياسي والنقدي، والدليل على ذلك كان الترويج لفكرة (هبّة شعبية) تكون الغطاء للتهرّب من إنجاز الشرط الذاتي للثورة، ونقصد وحدة أداة صراع الثورة بوجه وحدة أداة الصراع لدى النظام.

وحدة أداة الصراع ليست فكرة ضبابية أو متخيلة، بل هي حاجة ضرورية لخوض الصراع السياسي ضدّ نظام أوقف عجلة التطور العام في البلاد.

أداة الصراع لا تزال ضعيفة وغير قادرة على إنجاز مشروع الثورة، ونقصد بأداة الثورة جسمها السياسي الذي يخوض صراعًا سياسيًا ضدّ النظام وتحالفاته الإقليمية والدولية، وكذلك جسمها العسكري الذي ينبغي أن يكون جسمًا واحدًا بما يستلزمه إنجاز الثورة وتحققها. الجسم السياسي والعسكري للثورة السورية ليسا جسمين منفصلين أو مستقلين عن حاضنتهما الشعبية، وهذا يتطلب أن يكونا مسؤولين أمام هذه الحاضنة، التي هي من يمنح الشرعية السياسية والعسكرية لهما، ولكي تتحقق هذه الحالة يفترض الواقع أن تكون هناك مرجعية وطنية تكون كبرلمان مؤقت منتخب بطريقة ما، برلمان يعبّر عن وحدة الشعب السوري بكلّ مكوناته، ولا يخضع لابتزازٍ إقليمي أو دولي أو جهوي.

وفق هذه الرؤية يمكن القول إن النقد ضرورة لتصحيح مسار الثورة، وضرورة لمنع التحكم بمآلها وفق مصالح حزبية أو جهوية ضيّقة.

ووفق هذه الرؤية يمكن القول بضرورة عقد مؤتمر وطني لعموم السوريين، ينتج عنه تمثيل وطني بصيغة برلمان فاعل، يكون مرجعية للقرارات الحاسمة بما يخصّ مستقبل الشعب السوري وخياراته ببناء دولته الديمقراطية بالحدّ الممكن. هذا المؤتمر مسؤولية جميع قوى المعارضة والمجتمع المدني والفصائل الثورية المسلحة، وكذلك مسؤولية نخبه الفكرية والثقافية والعلمية.

فهل نتوقع إعادة الاعتبار للشعب السوري من خلال عقد مؤتمر وطني فاعل، يحضره ممثلو الشعب السوري بكلّ مكوناته الوطنية والسياسية وممثلو المجتمع المدني على قاعدة وحدة السوريين ووحدة دولتهم.

إذًا نحن بحاجة لفهم العلاقة بين الذات الثورية والواقع المتغيّر، وبحاجة لوضع الثورة السورية بكل فصولها تحت مجهر النقد الموضوعي والعلمي (عملها خلال السنوات الماضية)، فلا أحد على رأسه ريشة كما يقول المثل. وهذا جهد ليس فرديًا بل هو جهد مؤسساتي.

هذا النقد هو ما يصحح مسار الثورة ويفضح متسلقيها، ويمنع عنها تحكم قوى خارجية بمسارها وأهدافها، ويعيد الاعتبار للكادر العلمي والثقافي والسياسي وغير ذلك من الكوادر التي تستطيع قيادة الثورة إلى الحدّ الأدنى من أهدافها على الأقل.

 

المصـــدر

المزيد
من المقالات