لا يخفى دور القيم والمبادئ وغرس المفاهيم الاجتماعية والأخلاقية الفاضلة في توجيه البيئة الاجتماعية بالوجهة الصحيحة، التي تعلو فيها الفضائل الخلقية على الرذائل، والقيم الاجتماعية على الأنانية، والمصلحة المجتمعية الدائمة على الفردية الحاضرة.
التشريعات القانونية في الدولة الحديثة لا تبني مجتمعًا ولا تؤسس لحضارة، وإنما هي سياج يمنع الاعتداء على مشاريع النهضة الاجتماعية والحضارية.
وفي ظل الحكم الاستبدادي الذي حكم سوريا لعقود، كان يهم النظام تحصين نفسه بأحزمة من الاستبداد وأطواق من العسكر وقوى الأمن وشبكات من الزبائن المنتفعين، فما كان يفكر في التأسيس لمشروع نهضة أو بناء مجتمع، بل يحارب تلك النزعات النهضوية والتحررية لأنها نواة لكسر أطواق الاستبداد، فالحرية الفكرية نتيجة حتمية للشروع في تأسيس الصحوة والنهضة بالمجتمع، لأن العقول المتطلعة للنهضة لايمكن إلا أن تكون حرة.
بناءً على ذلك منع النظام نشاطات التوجهات والتكتلات التي كانت تحمل توجهًا نهضويًا تحرريًا، فحارب التعددية السياسية والحرية الصحفية والتجمعات النهضوية الإصلاحية، أيًا كان توجهها الإيديولوجي.
في الوقت ذاته لا يمكننا أن ننكر درجة الرقي الفكري الذي أسس للقيم والمفاهيم التحررية في المجتمع السوري، فما مصدرها وأساسها إذا كان النظام يحارب كل فكرة إصلاحية ومشروع نهضوي لعقود؟
رغم تحصين النظام لنفسه، بكل ما ذكرنا، لم يجد مفرًا من بعض الحيل التي يخفف بها من احتقان الشعب ضد سياسته الاستبدادية، وبسبب طبيعة المجتمع المتدين، وفي خطوة على طريق سياسة تقوم على الكبت والاستبداد وفي ذات الوقت تخفف وطأة تلك السياسة على الشعب خوفًا من ضيق يوصل للانفجار، من خلال بعض المظاهر التي تناسب الوجه العام للمجتمع السوري.
وبعد المعركة الطويلة مع الإسلاميين، التي بدأت بعد انقلاب حافظ الأسد وما انتهت في القضاء على الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين في حماة، جاءت خطوة تأسيس معاهد الأسد لتحفيظ القرآن الكريم.
بداية اختلفت مواقف الشيوخ بين قابل للعمل تحت ذاك الاسم، ورافض له على اعتبار أن معركة الإسلاميين مع النظام لم تنته بعد، وأن هذه الخطوة جاءت لتحييد بعض الإسلاميين عن تلك المعركة، ولكن بعد أن تم الأمر للنظام واستقر له، بدأ الشيوخ بالعمل على إعادة التأسيس لتيار الصحوة الإسلامية من خلال تلك المعاهد، ومن ذلك النشاط المسجدي في داريا.
أراد النظام من “اسم معاهد الأسد لتحفيظ القرآن”، بعض النشاطات الشكلية اعتمادًا على حفظ وتلاوة القرآن، وعرض له وتبريكات به فقط، دون أن يكون مؤسسًا لوعي عام.
ولكن الأمر لم يسر وفق ما أراد رغم تضييقه الشديد، فتعليم القرآن والسنة يقتضي تعليم المسلمين الاهتمام بشأن الأمة، وقضايا السياسة والفكر والاقتصاد، وغرس الأمل في النهضة الاجتماعية التي لا تبنيها إلا القيم. وبذلك كانت تلك المساجد نواة لتعبئة جماهيرية، غرست فكرة جمعية عند جيل الشباب، مفادها وجوب تغيير اجتماعي وفكري، وبما أن الذي يقف في وجه كل مشروع علمي أو فكري أو ثقافي يريده الشباب، هو الاستبداد السياسي، كان لا بد من اهتمام بتغيير أم الخبائث التي فتكت بالمجتمع: الاستباد السياسي.
جعل النشاط المسجدي في داريا مراكز لغرس القيم الأخلاقية، والمفاهيم الاجتماعية الصحيحة، وتحفيز روادها للعمل للنهضة، من خلال حلقات التعليم في المساجد التي كانت تدرس القرآن والحديث النبوي، وشيئًا من التاريخ الإسلامي، وله دور كبير في عصف ذهني لدى الطلاب: تدور حول تساؤلات لماذا الفرق الكبير بين أمس المسلمين ويومهم، وكيف السبيل للعودة لما كان بالأمس، بالإضافة لخطب الجمعة والدروس العامة والمسابقات والحفلات الدينية التي كانت كلها بمثابة ندوات ثقافية تخطو على سبيل تعبئة جماهيرية تحرض الناس على وجوب تغيير في النظام.
تجلى أثر النشاط ذلك في داريا، في كون النسبة الكبيرة من ثورة داريا السلمية (التي أجبرت على العسكرة فيما بعد) من الشباب الجامعيين، والذين جمعوا إلى ذلك ثقافة إسلامية حملوها من المساجد، بل لعل الذي وجههم للدراسات الجامعية هو النشاط المسجدي في داريا.
ثم ظهر أثر ذلك في الوعي السياسي والديني، والاعتدال الذي اتسمت به داريا، فما كانت يومًا بؤرة للتشدد، وما كانت ثورتها يوما حربًا بالوكالة ولا حربًا مأجورة، فالغاية الواعية التي أرادها ثوار داريا تحررًا من الاستبداد، لإتاحة بيئة من الحرية للعمل على بداية نهضة اجتماعية تكون بداية لنهضة حضارية عامة.