بعد عام 2011، ظهرت في سوريا عشرات التجارب الفنية التي لم تنحصر بنمط معين، فأنتجت الأغاني والأفلام وظهرت تجارب مسرحية تحاول محاكاة الواقع السوري وآلام الناس، سواءً داخل أو خارج سوريا، في بلد يعاني من كبت ثقافي وفني.
كانت الحركة الفنية في سوريا محصورة بمؤسسات النظام السوري الرسمية على مدى سنوات، أو ضمن قوالب وأفكار محددة، أخرجت الفن من كونه فنًا، وجردته من أهم أدواته، ألا وهي حرية الطرح.
وحتى مع صعود نجم الدراما السورية، لم تنجح بالتحول إلى صناعة متكاملة، مع نجاح ينسبه بعض النقاد للأفراد لا للعمل المؤسساتي، وسط غياب للأكاديميات الفنية المختصة بالفنون، باستثناء المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق والمعهد العالي للموسيقى.
حركات فنية نتيجة الفوضى؟
يتجه نقاد لاتهام الحركات الفنية السورية بعد عام 2011، التي غلب عليها الطابع الشبابي، بالفوضى وعدم امتلاكها لرؤية واضحة لما تريد تقديمه، رغم امتلاكها لعنصر حرية الطرح، خاصةً في حال كانت هذه التجارب فردية ولا تخضع لقوانين الممولين من جهة، وخرجت من عباءة الكبت الذي مارسه النظام من جهة أخرى.
ويقول الصحفي نبيل محمد لعنب بلدي، إن سوريا كانت تعاني من كبت ثقافي والتجارب كانت مسطحة وضحلة باستثناء تجارب شخصية، ولكن بعد عام 2011 رُفعت القيود عن مختلف السياقات الاجتماعية خاصةً لمن اضطر للخروج من سوريا، ما أدى إلى ظهور تجارب فنية جديدة، هذه التجارب تأثرت بالثورة ولم تؤثر بها، إلا أنها بالتأكيد أثرت بصورة الثورة في الخارج، خاصة الأفلام والمسرحيات التي عرضت على منصات عالمية وحازت على جوائز.
وهذا ما يؤكده الكاتب والمخرج المسرحي علي الأعرج، إذ قال لعنب بلدي إن الكبت الثقافي كان من أهم مسببات ظهور هذه الحركات التي ارتبطت مبدئيًا بالموسيقى ومن ثم بالسينما في وقت لاحق.
ويرى علي الأعرج أن الأغاني الأولى الثورة ، كانت لافتة وناجحة وأسهمت بالعمل المدني، وتفاعل الناس معها، ضاربًا أمثلة بأغنيتي “بدنا نعبي الزنزانات” لفرقة “أبطال موسكو الأقوياء”، و”ياحيف” لسميح شقير، والتي لم تتكرر للأسف في وقت لاحق، خاصةً مع بداية مرحلة العسكرة، إذ اختلف الموضوع تمامًا، وطغت بعدها موسيقى الراب لسهولة تنفيذها، والتي أثرت بالشباب بشكل سيئ، وعدم النهوض بما يخص الكتابة مع خضوعها للعمل المؤسساتي.
وفيما يخص فوضى هذه الحركات، يشير نبيل محمد إلى أن هناك فوضى بتناول الموضوعات لضعف التنسيق، ووجود عدة مؤسسات للإنتاج، والممول أيضًا لديه دور في هذه الفوضى لأنه مسؤول عن كل سياقات المنتج في النهاية، شعبيته وتسويقه وغيره، وهذا لا يمنع وجود أشخاص يعملون بشكل سيئ، والممول هنا مسؤول عن الاختيار السيئ.
بينما يرى علي الأعرج الأمر من زاوية أخرى، خاصة مع محاولاته المسرحية في حلب وعفرين واسطنبول، “هذه الحركات فوضوية بطبيعتها، الثورة نفسها هي عملية كسر القواعد على جميع المستويات، سواء اجتماعيًا أو ثقافيًا، حتى التجربة السينمائية الوثائقية، هي فوضى، الفوضى ليست خطأ، لكن ليست هذه آلية عملها لأن الفوضى تستمر للنهاية، حتى في الثورة، ذهنيًا نحن كسرنا ولم نستمر، الحلم والخيال توقف على الصعيد الذهني تمامًا، هنا لحظة الانكسار، سواء فنيًا أو على الأرض”.
ويكمل الأعرج الحديث عن تجربته وتجربة هذه الحركات الفنية بقوله إن هذه الفوضى الفنية في بداياتها كانت خلاقة ومتنوعة، وتم الالتفاف عليها من خلال تخلي الكثير من الشباب عن العمل الخلاق والاتجاه للسياسية بحد ذاتها، وهذا ما كان يريده النظام.
الممول والأكاديميون.. علاقة خضوع؟
يعاني الكثير من الأكاديميين السوريين، سواءً من تخرجوا في المعاهد الفنية في سوريا أو من درسوا خارجها، من التهميش، أو عدم الحصول على فرصة حقيقية، في مقابل حصول شباب آخرين على هذه الفرص، وسط اتهامات تظهر بين الفينة والأخرى على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، بأن اختيارات الممولين لتنفيذ أعمال فنية سورية، سواء كانت مسرحية أم سينمائية، كانت العامل الأبرز في عدم وصول هذه الفنون للتأثير المفروض، حتى لو وصلت بعض الأعمال إلى منصات عالمية وحازت على جوائز مهمة.
وعند سؤالنا الصحفي نبيل محمد عن دور الممولين في صناعة هذه الحركات وانتشارها، يقول، “العلاقات العامة لها دور كبير أيضًا بالحصول على الفرصة، وبالمقابل لا يوجد الكثير من الفنانين الأكاديميين الذين تخرجوا من سوريا أصلًا، والكثير من هؤلاء فضلوا البقاء تحت مظلة النظام، ومن خرج من هذه المظلة لديهم ظروفهم، بعضهم اعتزل، وآخرون يحاولون الاندماج في المجتمعات الجديدة، والقلة تحاول تقديم شيء ما، هناك البعض ممن خضع لرغبات الممول والبعض الآخر رفض”.
يتقاطع رأي نبيل محمد مع رأي علي الأعرج، إذ يرى الأخير أن “للسينما قواعدها في النهاية، الممول يخضع العمل الفني أيضًا لقواعده، لذا مع وجوده انتهى عنصر الفوضى، كون الفوضى بأساسها تمردًا وتجربة ذاتية، تجربة الأمل والثورة خلقت شيئًا مختلفًا عند من يحاول التجربة، وخلقت علاقة مع أبسط الأشياء الموجودة”.
لكنه يعتقد أن العمل السينمائي، ذهب بالاتجاه الوثائقي، لا الروائي، والعديد منها كان ذاهبًا باتجاه التوثيق فقط، أما المضمون فهو فارغ، حتى في السينما لم تكن هناك نهضة، على حد قوله، ويكمل “لم تؤثر هذه الفنون بالناس، حتى السينما لم تطور أدواتها وبنيتها، ولم توثر بالمشروع السينمائي السوري، بعد ثماني سنوات من المفترض أن يكون لدينا شيء واضح، ولدينا العراق كمثال على صعيد الرواية والمسرح”.
ويروي الأعرج شيئًا من تجربته المسرحية، لعنب بلدي، ويربط ما بين الحركات المسرحية ومسؤولية المؤسسات عن الإنتاج الفني السيئ بشكل عام فيقول، “المسرح أيضًا ارتبط بالمعمل المؤسساتي، أنا خضت ثلاث تجارب مسرحية خلال ثماني سنوات إحداها في عام 2012، وكان المشروع يفترض أن يعرض في معمل يحتوي على خردة كهرباء، وتعرضنا لضغوط كبيرة من النظام، هناك خوف ضمني من تعويد الناس على رؤية العروض في مكان مختلف، والخوف من محاولة إخراجه من إطاره المؤسساتي، ليتوقف العمل في النهاية ولم يرَ النور”.
في عفرين حاول الأعرج أيضًا، إلا أن المسؤولين فيها رفضوا أن تظهر المسرحية باللغة العربية، وعرضت بغير لغتها الأم.
ولذا يعتبر الأعرج أن المؤسسة كانت السبب في فشل التجربة، “في النهاية المؤسسات كانت سببًا في عدم ظهور مسرح حقيقي، لأن خروج المسرح عن الإطار المؤسساتي سيدمر الكثير من المفاهيم”.
السينما لها قواعد، هذه التجارب كان يجب أن تكون حرة بالكامل، عدم الحرية سيؤثر على الصانعين، وهذا ربما ما يرفضه بعض الأكاديميين، لهذا رفض العديد منهم التعامل مع الجهات الممولة، بحسب ما قال.
بينما يرى نبيل محمد أن “سبب الفوضى بالإنتاج هي أن هذه التجارب شخصية وجديدة تفتقر للخبرة، لا توجد خبرة حتى بالحصول على الدعم أو الوصول إلى المنصات العالمية، عدا عن ضعف الخبرة بالتسويق لدى الأغلبية وبشكل عام هذه التجارب قليلة العدد أصلًا”، بحسب رأيه.
أين دور المعارضة من الإنتاج؟
كثيرة هي الأسئلة التي تلاحق المعارضة السورية على مدى السنوات السابقة، ولعل أبرزها ما يخص عدم اتجاهها لدعم الفنون بشكل عام، وعدم استثمارها لتأكيد وجهة نظرها فيما يحصل في سوريا، على عكس ما فعله النظام بإصرار منذ بداية الثورة السورية، واستثماره للموسيقى والسينما والمسرح ولفنانيه لإيصال صوته والتأثير على المحيط العربي لسوريا على أقل تقدير.
ويتقاطع رأي كل من نبيل وعلي فيما يخص عمل المعارضة، إذ اتفق كلاهما أن المعارضة لم تستثمر وجود هؤلاء الفنانين لشرح وجهة نظرها، ويقول نبيل محمد إن الحركات السياسية المعارضة لم تستثمر شيئًا أصلًا، علينا أن نرجع الموضوع لحالة الحرب المستمرة، وهذا سبب مباشر، وهي جزء كبير من حالة عدم الربط بين الهيئات المعارضة وعدم قدرتها أيضًا على الوصول إلى هذه الحركات الفنية وإلى الحيز الثقافي والاجتماعي ومحاولة دعمها والاستفادة منها.
“هناك جرائم يومية تحدث في سوريا ومن الصعب تحت هذه النيران تنظيم أي عمل”، لكن هذا لا ينفي بحسب نبيل محمد، أن “المعارضة تملك مشاكلها وعدم استثمارها للطاقات الفنية، خاصةً وأن كل تحركات المعارضة كانت تذهب باتجاه الانصياع لمشاريع دول كبرى واتجاهات بعيدة عن رسالة الثورة”.
بينما يرى علي الأعرج أن “المعارضة هي نسخة من النظام، تريد مشروعًا يخدم مصالحها فقط، والثورة حالة تمرد، لذا لا يتوجب عليها أصلًا التعامل مع الأيديولوجيا، وعلى الثورة، حتى لو كانت على الصعيد الفردي، رفض كل شيء، ولذلك المعارضة لم ولن تدعم الفنون، وفي حال سقط النظام واستلمت المعارضة زمام الحكم، على الجميع أن ينزل للعمل في الشارع، وإلا فإن النتائج الفنية التي كانت تظهر أيام سطوة النظام، هي ذاتها التي ستظهر لاحقًا”.