لا فرق في ملامح المهجرين من أحياء حمص القديمة وحلب وداريا مع أرتال مغادري الغوطة الشرقية، آلاف من المدنيين أضناهم الحصار والقصف، نجوا من الموت المجاني، اقتلعوا من جذورهم ونقلوا إلى إدلب، وجهة لا يعرفون عنها شيئًا، سوى الدعاية الرسمية للنظام السوري التي توحي بأنها ستكون “أرض القيامة”.
أحداث متسارعة كانت كفيلة بإغلاق ملف الغوطة الشرقية لمصلحة الروس، بطريقة مشابهة لما حدث في مناطق أخرى، مع فارق انكفاء الدول المؤثرة في الملف السوري وأصدقاء المعارضة عن التحرك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فما خفايا ما حصل على الأرض، وما حقيقة خذلان الفصائل العسكرية للمدنيين، وكيف تمكنت روسيا من التوغل في عمق الغوطة الشرقية والضغط على فصائل المعارضة للقبول بشروطها.
مكاسب الغرب تنسخها انسحابات الشرق
شهدت الغوطة هدوءًا حذرًا في الفترة الممتدة ما بين 10 و15 من شباط الماضي، أي بعد حوالي شهر ونصف من الهجوم الذي شنته المعارضة على ثكنة “إدارة المركبات” العسكرية، في مدينة حرستا بالقسم الغربي من المنطقة المحاصرة، لتبدأ وسائل الإعلام الرسمية بالترويج لحشود عسكرية على أطراف الغوطة تحضيرًا لعمل عسكري “حاسم” في المنطقة.
الهدوء الحذر تحوّل فيما بعد إلى واحدة من أكثر المعارك شراسة من قبل النظام وروسيا، عبر حملة برية وجوية أسفرت عن مقتل نحو 1500 مدني، وانتهت بسقوط أغلب مساحة الغوطة في يد النظام.
بدأت عمليات القوات العسكرية البرية، في 20 من شباط الماضي، بمحاولات اقتحام مناطق عين زريقية وحوش الضواهرة، في منطقة المرج شرقي الغوطة.
وبحسب القيادي الميداني في “فيلق الرحمن” محمد إدريس، فإن قوات الأسد شنت هجماتها من المحور الشرقي للغوطة، بسبب تحصين المحور الغربي في عين ترما وجوبر وحرستا، حيث طرق إمداد المعارضة غير مكشوفة على عكس الجهة الشرقية التي تغلب عليها الأراضي الزراعية.
الساعات الأولى للمعركة أشارت إلى خسائر “كبيرة” في صفوف القوات البرية المقتحمة، بعد كمينين نفذهما “جيش الإسلام”، الذي كان يسيطر على منطقة المرج، أديا إلى مقتل حوالي 125 عنصرًا على الأقل من قوات الأسد.
لكن الجبهة سرعان ما انهارت في اليوم 11 من الحملة العسكرية على المنطقة، ليعلن “جيش الإسلام” انسحابه من “فوج النقل” في الشيفونية وبلدة حوش الضواهرة، بعد انكسار “خط الموت” ( قناة مائية بعرض 3.5 متر) الذي رسمه “الجيش” في محيط بلدتي عين الزريقية وحوش نصري.
وأوضح إدريس لعنب بلدي أن قوات الأسد تمكنت من كسر الخط المائي المرسوم في المرج، بعد استهدافه بشكل مكثف بالبراميل المتفجرة وصواريخ أرض- أرض، الأمر الذي أدى إلى ردمه، وبالتالي دخول الآليات العسكرية إلى المنطقة المكشوفة في الأراضي الزراعية، وتمكنت بذلك من اقتحام كتيبة “الباتشورا” في أوتايا المطلة على طريق أوتايا- المحمدية.
لكن المحلل العسكري والاستراتيجي، العقيد الركن خالد المطلق، يرى أن المقاومة اللازمة لم تحدث في المنطقة، حتى تمكنت القوات من السيطرة على ثماني قرى في المرج بوقت قياسي، وتوغلت باتجاه الغرب وصولًا إلى مزارع مسرابا بجبهة عرضها 700 متر.
سقوط بلدة مسرابا دون أي مقاومة هو أكبر دليل على وجود اتفاق مسبق، بحسب تصريح المطلق.
خطة لتقسيم المنطقة
اتبعت قوات الأسد سياسة “الأرض المحروقة” في حملتها وسط الغوطة، وتقدمت من محوريين مختلفين في آن واحد، الأول من جهة الشرق وصولًا إلى مديرا، والثاني من جهة دوما الغربية على جبهة مزارع كرم الرصاص وصولًا إلى منطقة حارة الديرية في حرستا.
وتمكنت القوات من عزل مدينة حرستا عن دوما عقب سيطرتها على الطريق الفاصل بين المدينتين، تزامنًا مع وصول قواتها المتقدمة شرقًا إلى “المعهد الفني” التابع لثكنة “إدرة المركبات” العسكرية، الممتدة من مديرا حتى مدينة حرستا مرورًا بمزارع منطقة الصوا التابعة إداريًا لمدينة عربين، وبالتالي تمكنت قوات الأسد وروسيا من تقسيم الغوطة الشرقية إلى ثلاثة جيوب تسيطر عليها فصائل “جيش الإسلام” في دوما والريحان، و”فيلق الرحمن” المسيطر على القطاع الأوسط من الغوطة، وفصيل “حركة أحرار الشام” الذي يبسط نفوذه على حرستا.
البداية من القطاع الأوسط
عقب تقسيم المنطقة، توجهت قوات الأسد إلى الهجوم على مزارع الأشعري القريبة من مدينة حمورية، وتمكنت بعد حرب عصابات من الوصول إلى أحيائها الشرقية، بحسب ما صرح مصدر عسكري، رفض الكشف عن اسمه.
وقال المصدر لعنب بلدي إن مقاومة “فيلق الرحمن” لم تستطع تنظيم خط اشتباك مع القوات المتقدمة من الشرق بسبب كثافة القصف وضعف وصول الإمدادات إليها، واقتصرت المقاومة على مجموعات خفيفة سريعة التنقل بهدف الحد من التقدم السريع.
وبحسب المطلق، فإن خللًا أمنيًا أصاب “فيلق الرحمن” عقب انسحاب “جيش الإسلام”، والوصول السريع لقوات الأسد إلى عمق مناطق نفوذه.
وبالتزامن مع تقدم قوات الأسد باتجاه حمورية، فشلت مفاوضات لجان أهلية مع قوات الأسد بعد رفض قيادة “فيلق الرحمن” لبنودها، لتزداد كثافة الحملة العسكرية، ويقتل في 13 من آذار 100 مدني على الأقل في حمورية، بحسب مصادر طبية من المنطقة.
وأعلنت قوات الأسد، بتنسيق ودعم روسي، فتح معبر لخروج المدنيين في الجهة الشرقية لحمورية، الأمر الذي أدى إلى نزوح آلاف المدنيين عن المنطقة وتقدم قوات الأسد بالتزامن مع عمليات النزوح وانسحاب مقاتلي المعارضة منها.
تزامنًا مع معارك حمورية شنت وسائل إعلام النظام حربًا إعلامية مفتوحة استهدفت “الحاضنة الشعبية” ومقاتلي الفصائل، الأمر الذي أدى إلى انهيار الروح المعنوية، بحسب ما يرى العميد خالد المطلق، مشيرًا إلى أن المعارضة السياسية تتحمل جزءًا كبيرًا مما حدث، وعزا ذلك إلى أن المعارضة لم تأخذ دورها في شن حملة إعلامية مضادة.
تكرر سيناريو حمورية في عدد من بلدات القطاع الأوسط، وساندت قوات الأسد ما يعرف بـ “لجان المصالحة” التابعة للشيخ بسام ضفدع، التي التفت على مقاتلي “فيلق الرحمن” في وادي عين ترما، وتمكنت من الوصول إلى المتحلق الجنوبي، وإطباق الحصار على عين ترما وزملكا وعربين وحي جوبر بدمشق.
بنود اتفاقات الغوطة.. دوما تنتظر
عاشت الجزر الثلاث (القطاع الأوسط، حرستا، دوما) في الغوطة الشرقية، سلسلة من المفاوضات خلال شهر آذار، انتهت باتفاقين قضيا بإخراج المقاتلين ومن يرغب إلى الشمال السوري، بينما تنتظر دوما مصيرها بعد مهلة منحت لـ “جيش الإسلام” من قبل الروس.
اتفاق القطاع الأوسط
علمت عنب بلدي، من مصادر مقربة من لجنة التفاوض التي قابلت مندوبين روس، بنود الاتفاق بين روسيا وفصيل “فيلق الرحمن”، الذي جرى في 23 من آذار، على جبهة جوبر قرب محطة عين ترما للوقود.
واتفقت لجنة منبثقة عن فعاليات مدنية وعسكرية، مع الجانب الروسي الممثل بالجنرال ألكسندر زورين.
ونص الاتفاق على التزام جميع أطراف النزاع المسلح في الغوطة بوقف جميع الأعمال العدائية بضمانة روسيا الاتحادية.
ويضمن الجانب الروسي البدء بإخراج الجرحى والمرضى بشكل فوري إلى مستشفيات دمشق، عن طريق منظمة “الهلال الأحمر”، حسب رغبتهم، وضمان سلامتهم وعدم ملاحقتهم من قبل حكومة النظام السوري، ويخيرون بعد تماثلهم للشفاء بين العودة إلى الغوطة أو الخروج إلى الشمال.
كما تضمن روسيا اتخاذ كل التدابير اللازمة لتحسين الحالة الإنسانية “فورًا”، وتسهيل دخول القوافل الإنسانية إلى المنطقة، وخروج من يرغب من العسكريين وعوائلهم بأسلحتهم الخفيفة بشكل آمن، ومرافقتهم من قبل الشرطة العسكرية الروسية حصرًا.
ويحق للخارجين أن يصطحبوا أمتعتهم الخفيفة ووثائقهم وأجهزتهم الشخصية (لابتوب، موبايل، كاميرا)، إضافة إلى مدخراتهم المالية دون تعرضهم للتفتيش الشخصي.
وتضمن روسيا عدم ملاحقة أي من المواطنين المدنيين الراغبين بالبقاء في الغوطة من قبل أجهزة حكومة النظام السوري.
إضافة إلى نشر نقاط شرطة عسكرية روسية في البلدات التي تقع تحت سيطرة “فيلق الرحمن” حاليًا، والتي يشملها الاتفاق، وهي عربين، زملكا، عين ترما، جوبر.
اتفاق حرستا
نصت بنود الاتفاق، الذي جرى برعاية روسية مع “حركة أحرار الشام الإسلامية”، على خروج العسكريين بسلاحهم ومن يرغب من المدنيين إلى الشمال بضمانات روسية.
كما منحت ضمانات للأهالي الراغبين بالبقاء في المدينة من قبل النظام والروس، “بعدم التعرض لأحد في المدينة والحفاظ على مكونها دون تهجير أو تغيير ديموغرافي”.
وعاد العشرات من أهالي حرستا، الذين كانوا يقطنون في دمشق، إلى المدينة بوساطة عسكرية عقب تنفيذ الاتفاق، وفق ما أكدت مصادر متطابقة لعنب بلدي، إلا أن العودة لم تشمل جميع النازحين.
وشُكلت بموجب الاتفاق لجنة مشتركة من أهالي حرستا في الداخل والخارج، من أجل متابعة أمور من بقي في المدينة والمعتقلين وتسيير شؤون المدينة.
دوما تنتظر مصيرها
لم يحسم ملف دوما، رغم سلسلة من المفاوضات مع فصيل “جيش الإسلام”، الذي يرفض الخروج بموجب اتفاق كما جرى في حرستا والقطاع الأوسط.
آخر التطورات في الملف، هي منح الفصيل مهلة أسبوع من قبل الجانب الروسي، الذي يصر على إخراج المقاتلين والراغبين من الأهالي.
وقال مصدر مقرب من “القيادة الموحدة” لعنب بلدي، طلب عدم الكشف عن اسمه، قبل أيام، إن “القيادة” في دوما بدأت مفاوضات تنص على وقف إطلاق النار، وعدم تهجير أهالي المدينة، إضافة لمحاولة إيجاد حل سياسي في المنطقة.
ووفق لجنة المفاوضات في دوما، نوقش تبادل جثث الضحايا من موقوفي عدرا العمالية الذين قتلوا بقصف استهدف أماكن وجودهم، إلى جانب السماح للمساعدات بالدخول وغيرها من النقاط.
وأقرت اللجنة أن المفاوضات “صعبة للغاية ولا يتوقع منها نتائج سريعة”، داعيةً إلى “الصبر والتماسك وأخذ الحيطة، والابتعاد عن تداول المعلومات المغلوطة والتحليلات الخاطئة”.
وقيل إن الاتفاق، الذي لم يحسم بعد، يقضي بتبادل أسرى بين قوات الأسد و”الجيش” وتسوية أوضاع “المسلحين” ضمن قوائم “الدفاع الوطني”، وتسوية ملفات السلاح الفردي لتنظيمه ضمن لوائح الدولة، بينما يخرج من يرغب إلى منطقة لم تحدد.
النظام يؤمّن معقله.. المعارضة تخسر قلعتها
كانت الغوطة تشغل وزنًا سياسيًا كبيرًا، كآخر “قلاع الثورة” في محيط العاصمة دمشق، وتعتبر سيطرة النظام عليها إنجازًا له مكاسب سياسية وعسكرية.
على مدار ست سنوات ونصف، شكل الجيب الواقع شرق دمشق “هاجسًا” بالنسبة للنظام السوري وداعميه الإقليميين، فالتهديد الذي فرضه النشاط العسكري على معقل الأسد الأبرز حوّل الملف إلى “مشكلة معقدة” يجب حلها بالتزامن مع التنافس السياسي بشأن سوريا، والذي دار مؤخرًا بين اللاعبين الروسي والأمريكي.
الحزام الناري لم يعد ناريًا
نجح النظام السوري، بمساندة حلفائه الروس والإيرانيين، بين عامي 2014 و2016، بتفتيت الحزام الناري الذي فرضته المعارضة حول دمشق، فاستطاع تجزئة غوطتيها الشرقية والغربية، وتحييد البلدات الجنوبية بشكل كامل، ما سهل عليه فرض “هدن” بالقوة، ثم تسويات تضمن ترحيل الفصائل إلى الشمال.
ومع خروج الفصائل إلى الشمال يتجه النظام لإعلان دمشق “مدينة آمنة”، ولا سيما أنه بات يحكم سيطرته على المقومات الحيوية الثلاثة لها، وهي الطرق الرئيسية وآخرها الأوتوستراد الدولي دمشق- حمص، وكبرى محطات توليد الطاقة الكهربائية، والمصدر الرئيسي للمياه، فضلًا عن السلة الغذائية المتمثلة بمنطقة المرج والمزارع المحيطة بها شرق دمشق.
القيادي في “الجيش الحر”، النقيب سعيد نقرش، اعتبر أن النظام أمّن حدود العاصمة دمشق بشكل كامل بالسيطرة على الغوطة، وأصبح معقله السياسي بأمان، كما أن الخطر الذي لازمه سابقًا قد زال، ما يمكن اعتباره “مكسبًا كبيرًا”.
وقال نقرش لعنب بلدي إن روسيا اتجهت سابقًا إلى الترويج لفكرة محاربة التنظيمات المتطرفة، بينما انقلبت الآن للحديث عن السلاح غير الشرعي بيد الفصائل الخارجة عن سلطة النظام السوري.
ويحكم النظام السوري سيطرته حاليًا، على عقدة طرق رئيسية من دمشق وإليها، وأبرزها: طريق الديماس الواصل بين العاصمة ولبنان من الغرب، وطريق دمشق- درعا من الجنوب، وطريق دمشق- حمص، وطريق مطار دمشق الدولي من الشرق.
كذلك فإن مطار دمشق الدولي بات آمنًا بشكل كامل بعمليات عسكرية سابقة أحرزت فيها قوات الأسد تقدمًا واسعًا، وهو المعبر الجوي الرئيسي للنظام في سوريا، عدا عن مطارات وقواعد جوية عسكرية تعزز من سيطرته، أبرزها: مطار المزة العسكري، مطار السين، مطار الضمير.
المعارضة خسرت ورقة ضغط
ومع الهجوم شرق دمشق، طرحت تساؤلات عن خسارة المعارضة بسقوط الغوطة، وبحسب النقيب نقرش ” خسرت المعارضة إحدى الأوراق المهمة، لكنها لم تخسر آخر أوراقها”.
بينما قال العقيد الطيار حاتم الراوي لعنب بلدي إن فصائل المعارضة فقدت ورقة ضغط كبيرة بخسارة مواقعها شرق دمشق، مشيرًا إلى أن الخسارة ليست بفقدان هذه الفصائل بل بخسارة الموقع الذي يعتبر الأهم من بين المساحات الخارجة عن سيطرة النظام السوري.
واعتبر الراوي أن الغوطة شكلت الحبل الذي كان يلتف على عنق النظام، فهي بوابته إلى الشمال ومناطق الساحل التي تعتبر الجزء الأهم في سوريا، كما أنها صلة الوصل إلى البادية السورية.
ولم يربط العقيد مكاسب الغوطة بالنظام فقط، فمن وجهة نظره فإن الأسد خارج المعادلة لفقدانه القرار والقوة التي تحمي القرار في حال وجوده، وما يؤكد ذلك الدور الروسي الذي فرض في الغوطة سواء على الأرض أو على صعيد اتفاقيات الخروج.
ولا يمكن تجاهل المكاسب الاقتصادية التي تعود على الأسد بدخول الغوطة، إذ ستعود الحركة إلى أوتوستراد حرستا، الذي يعتبر رئة دمشق الشمالية وطريقها الرئيسي إلى حمص ومحافظات الشمال، ما يعني أنه سيسهل حركة الدخول والخروج إلى وسط دمشق وخاصة للتجار والفلاحين القاصدين سوق الهال بعدما تحول طريقهم في السنوات الماضية إلى طرق فرعية قرب مدينة التل (تحويلة جسر بغداد).
وإضافة إلى ذلك تعتبر الغوطة سلة غذائية لمدينة دمشق نتيجة المساحات الزراعية الواسعة، إذ زادت الأراضي الزراعية المستثمرة في 2008 عن 5665 ألف هكتار، بحسب البيانات الإحصائية الصادرة عن وزارة الزراعة.
روسيا تفرض خريطة النفوذ الجديدة
على الرغم من إتمام الحملة الروسية على الغوطة، وسيطرة النظام على معظم مساحتها، إلا أن الروس، الذين شكّلوا أساس الحملة، لا يبدو أنهم حققوا مكاسب كبيرة عقبها، كما هو الحال بالنسبة للنظام.
في الأيام الأولى من عام 2018، أعلنت الأركان الروسية أن المهمة الرئيسية لها هي تدمير “جبهة النصرة”، التي يوجد بعض مقاتليها في مناطق “تخفيف التوتر”، وعلى هذا الأساس سعت إلى تبرير حملتها على الغوطة، على الرغم من أن مقاتلي “النصرة” في الغوطة لم يكن عددهم يتجاوز 200 عنصر منتشرين في مناطق القطاع الأوسط.
لكن الأيام التالية للحملة أثبتت أن أهداف روسيا لم تنحصر بالأعمال العسكرية فقط، خاصة بعد خروج مقاتلي “النصرة”، بل كان للتصعيد مؤشرات سياسية أراد من خلالها الجانب الروسي تحقيق “نصر سياسي” بعد الفشل الذي شهده “مؤتمر الحوار الوطني” في “سوتشي”، وتبع الأمر عودة أمريكية لتثبيت الوجود في المناطق التي سيطرت عليها.
عضو وفد “أستانة” سابقًا، أيمن العاسمي، اعتبر في لقاء سابق مع عنب بلدي أن روسيا أرادت أن تحقق نصرًا سياسيًا من خلال “تنظيف” المناطق المحيطة بدمشق، وما يؤكد ذلك الاتفاق في جنوبي دمشق بإخراج عناصر من “هيئة تحرير الشام” إلى الشمال السوري، والذي تزامن مع العمليات العسكرية على الغوطة.
دوليًا، لم يكن موقف روسيا قويًا في مواجهة الانتقادات الأمريكية والأوروبية التي لاحقت حملتها في جلسات مجلس الأمن بشأن الغوطة الشرقية، وعلى الرغم من اكتفاء المسؤولين الغربيين بالتصريحات وعدم تقديم أي جهد حقيقي لوقف تقدم النظام وحليفه الروسي على الأرض، لكن ذلك لا يعدّ نصرًا على المستوى السياسي، بالنظر إلى الأزمة الدولية التي تعيشها روسيا اليوم، إثر قضية تسميم الجاسوس الروسي في بريطانيا.
من جانب آخر تبدو خريطة النفوذ الروسي اليوم أكثر وضوحًا في سوريا، بعد تأمين محيط العاصمة، نظرًا لمحاولات وصل حلب ودمشق والساحل عبر طرق برية متصلة يتم تأمينها باتفاقات مع فصائل المعارضة، في مسعىً لإحداث توازن في القوى مع الأمريكيين الذين يضعون أيديهم على منطقة شرق الفرات.
أربع شخصيات غذّت اقتتال الغوطة
كانت مصطلحات المتحدث الرسمي باسم “فيلق الرحمن”، وائل علوان، التي خاطب بها رئيس المكتب السياسي في “جيش الإسلام” محمد علوش، في تسجيل صوتي سُرّب في آذار، دليلًا ملموسًا على عمق الصراع بين الفصيلين، اللذين كانا طرفي اقتتالي الغوطة الأساسيين، في نيسان من عامي 2016 و2017 على التوالي.
الاتهامات ولغة الخطاب التي ظهرت ضمن التسجيل (تعتذر عنب بلدي عن عدم نشره)، لم تكن حديثة العهد بين قياديي الفصيلين، فقد تكررت وصدرت عن شرعيين ومناصرين ومنتمين للقطبين، منذ بدء بذور الخلاف مطلع عام 2016، وتحديدًا عقب قرار “الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام” اندماجه في صفوف “الفيلق”.
وانعكست لغة التخوين والاتهامات بتصفية قياديين، اقتتالين انتهى الأول باتفاق رعته قطر، ليعود الاقتتال الثاني في التوقيت نفسه بعد عام، إثر قرار “جيش الإسلام” اجتثاث “جبهة النصرة”، التي تحالف “الفيلق” معها، ليس من باب الوفاق وإنما “العداء” لـ “الجيش”.
تلك الاتهامات كان أبطالها علوان (اسمه الحقيقي عبد الرحمن لبنية) وعلوش في الشق السياسي، كما قادها كل من المسؤول الشرعي في “جيش الإسلام”، سمير كعكة (أبو عبد الرحمن)، والشرعي العام في “الفيلق”، خالد طفور (أبو سليمان)، وينحدرون جميعًا من مدينة دوما.
محاولة اغتيال طفور، الذي شغل منصب القاضي السابق للغوطة الشرقية، في آذار من عام 2016، عززت بوادر الاقتتال بين الطرفين، بعد اتهام “الفيلق” لـ “الجيش” بمسؤوليته عن الحادثة.
إلى جانب الاتهامات والانتقادات المتبادلة، التي تمحورت حول السعي للإقصاء والتفرّد في إدارة الغوطة عسكريًا واقتصاديًا، لم تتوقف الخلافات بين الطرفين، رغم أنهما كانا قطبين في تشكيل عُرف باسم “القيادة الموحدة” تحت قيادة زهران علوش، في آب من عام 2014، والتي رفضت “النصرة” مرارًا الانخراط فيها.
إلا أن تلك “القيادة” كانت حبرًا على ورق، على حد وصف أهالي الغوطة، خاصة بعد مقتل علوش، فقد تطورت الأحداث ليتجاوز الفصيلان التشكيل الجامع، وصولًا إلى تقسيم الغوطة إلى قطاعات خلال اقتتال عام 2017، كما أسهمت الفتاوى التي ساقها كل من كعكة وطفور في تعزيز الصراع.
وتنصل الطرفان مرارًا على مدار العامين الماضيين من الاتهامات المتبادلة، وتكررت دعوات “الخضوع للقضاء والشرع”، وضرورة تسليم المتورطين منهما.
وارتبط الاقتتال بخلاف التوجهات بين الفصيلين وتبعيتها لتيارين مختلفين، إذ رفع “جيش الإسلام” راية السلفية، وعرف عن “فيلق الرحمن” اعتماده “الإسلام الوسطي المعتدل”، بينما اتهمه البعض بأنه ينسق مع “النصرة”، الأمر الذي نفاه علوان في حديث سابق لعنب بلدي، بقوله “النصرة تسير وفق المنهج الاستعلائي الذي يجد نفسه الفرقة الناجية، ويرى غيره ضالًا ومبتدعًا”.
تهجير قسري على وقع “المصالحة”
عبر ما يعرف بـ “المعابر الإنسانية”، أعادت روسيا فتح ملف التهجير القسري في الغوطة الشرقية، التي سارت على نهج اتفاقيات “مصالحة” رعتها روسيا في مناطق سورية عدة، أحكمت من خلالها سيطرة النظام السوري على مدن وبلدات ظلت لسنوات بيد المعارضة السورية.
قصف ممنهج أشبه ما يكون بـ “الإبادة الجماعية”، تليه ادعاءات روسية بمحاولة إنقاذ المدنيين المحاصرين، عبر إعطائهم فرصة للحياة كانوا قد فقدوها تحت القصف، فيأتي تهجيرهم خلاصًا لهم من الموت.
من القصف إلى مراكز “مُعدمة”
في الغوطة، وفي أثناء الحملة العسكرية المكثفة التي شنها النظام السوري، في 18 من شباط الماضي، فتحت روسيا “معابر إنسانية” لخروج المدنيين المحاصرين، وذلك بعد عشرة أيام من القصف راح ضحيته 3314 قتيلًا و3607 مصابين.
في حين أجرت اتفاقيات “مصالحة” مع المقاتلين في صفوف فصائل المعارضة، قضت بتوجههم مع ذويهم إلى إدلب، معقل المهجرين الأكبر.
تشير إحصائيات وزارة الدفاع الروسية إلى خروج ما يزيد على 135 ألف مدني من بلدات ومدن الغوطة الشرقية، وذلك منذ بداية تطبيق الهدنة الروسية في 28 من شباط وحتى 29 من آذار الماضيين، تم إيواؤهم في خمسة مراكز تابعة للنظام السوري، بإشراف روسي.
وهذه المراكز هي: “الدوير” في عدرا ومدارس عدرا بريف دمشق، وصالة الفيحاء الرياضية بالعاصمة دمشق، ومركز حرجلة بالقرب من الكسوة بريف دمشق الغربي، بالإضافة إلى مركز خامس بالقرب من جسر بغداد على طريق دمشق- حمص الدولي.
بينما سمح لمئات النساء والأطفال وكبار السن، بالخروج إلى العاصمة، بشرط “وجود كفيل يخرجهم من تلك المراكز، كنوع من الاستضافة، بشرط تثبيت عنوان سكن واضح وتقديم صور عن الأوراق الثبوتية الخاصة بالكفيل”.
ويعيش المدنيون الفارون من الغوطة ظروفًا سيئة في مراكز الإيواء، نظرًا للأعداد الكبيرة التي تفوق الطاقة الاستيعابية للمراكز، في وقت تعمل عشرات المنظمات المحلية والأممية (الهلال الأحمر والصليب الأحمر) على نقلهم وتوفير مساعدات إغاثية في المخيمات والمراكز المؤقتة التي يقطنونها.
وتغيب الأرقام الدقيقة حول عدد المهجرين الموزعين على المراكز، كل على حدة.
من جانبها، نددت الأمم المتحدة بمراكز الإيواء التي خصصها النظام السوري للفارين من حملته العسكرية في الغوطة الشرقية، وقال الممثل المقيم لأنشطة الأمم المتحدة في سوريا، علي الزعتري، إن “الوضع مأساوي” في مراكز الإيواء في عدرا، وذلك في مقابلة له مع وكالة “فرانس برس” في 21 من آذار الماضي.
وأشار الزعتري، بعد زيارته عددًا من مراكز الإيواء في ريف دمشق، إلى أنها “غير مهيأة لاستقبال المدنيين”، مضيفًا أنه لو كان مواطنًا لما قبل البقاء فيها خمس دقائق، وأضاف “المدنيون هربوا من القتال وعدم الأمن في الغوطة إلى مكان لا يجدون فيه مكانًا للاستحمام”.
المسلحون ورافضو الاتفاق إلى إدلب
على دفعات عدة، خرج المسلحون من أحياء الغوطة، باستثناء دوما، نحو مخيمات في محافظة إدلب وريفها، ضمن اتفاق الإخلاء الذي أبرمته روسيا معهم.
ووفق إحصائيات منسقي الاستجابة في الشمال السوري، تجاوزت أعداد المسلحين والمدنيين الواصلين من دمشق وريفها إلى إدلب الشهر الحالي حاجز 35 ألفًا، وذلك حتى 30 من آذار الماضي، جميعهم من القطاع الأوسط وحرستا.
أول دفعتين من المهجرين إلى الشمال كانتا من حرستا في الغوطة، في 23 و24 من آذار، وضمتا 5198 شخصًا، وزعوا على مخيم “ميزناز” شمالي إدلب، ومخيم “ساعد” في حين وصلت ست دفعات من عربين إلى مراكز إيواء ومخيمات في ريف إدلب، بدءًا من 25 وحتى 30 من آذار، وتضمنت ما يقارب 28 ألف مسلح مع ذويهم، وجميعهم وصلوا إلى إدلب عبر قلعة المضيق.