لعل الثورة السورية كانت الحالة التي تجلت فيها هذه الظاهرة بشكل فاقع، ولكن ظاهرة “الناشطين حسب الحالة” هي عالمية بالتأكيد ومرة أخرى أظهرتها الثورة السورية بأبرز تجلياتها.
فقد ظهر على سبيل المثال أن كثيرًا من الناشطين والمتعاطفين الغربيين مع القضايا العربية وخاصة القضية الفلسطينية هم ليسوا أكثر من أدوات بوتينية لإثارة الغبار في وجه الغرب، فعلى سبيل المثال رفض تحالف “أوقفوا الحرب” تنظيم مظاهرات احتجاجًا على مجازر روسيا في حلب “لكي لا يثير الهيستيريا ضد روسيا”، في حين أن ذات التحالف سيّر عشرات المظاهرات ضد الغزو الأمريكي للعراق وكأن إثارة الهيستريا ضد أمريكا أمر محبب.
جورج غالاوي، نعوم تشومسكي وأسماء كثيرة كنا نفتخر فيها، وقفت في صف بشار الأسد، وأسهمت (تمامًا مثل شخصيات مأجورة كشريف شحادة وبثينة شعبان) بتسويق ترّهات عن مؤامرة كونية وإمبريالية أمريكية وغيره من الكلام دون إشارة إلى حجم الجرائم التي ارتكبها أعداء الإمبريالية أنفسهم.
ذات الأمر تكرر في الربيع العربي، فالثورة المصرية والتونسية والبحرينية واليمنية والليبية هي ثورة مباركة، بينما الثورة السورية هي خديعة عند حسن نصر الله وبقية مرتزقة محور المقاومة، ذات الأمر تجده عند كثير من أنصار الثورة السورية حين يعتبرون ثورة البحرين ليست أكثر من مؤامرة إيرانية.
على المستوى المحلي في سوريا ليست الحال بأفضل بطبيعة الحال، وهي اليوم على أشدها بسبب عملية غصن الزيتون التركية، حيث يتكاثر “الناشطون حسب الحالة” اليوم، الذين يدعون إلى وقف العملية لأنها مضرة على المدنيين أو لأن الغزو التركي هو احتلال من قوة أجنبية للأرض السورية.
والكلام من ناحية مجردة صحيح بالمناسبة، فعملية غصن الزيتون هي عملية تركية لا مصلحة لنا فيها، ولا شك بالنسبة لي أن المدينة ستعود حتمًا في النهاية إلى حضن الأسد وهو ما بدأت تتضح معالمه اليوم، ولكن كلام الناشطين هؤلاء يفقد معناه حين تعرف أنهم من أنصار “وحدات حماية الشعب” الفصيل الوحيد الذي دعمته روسيا وأمريكا معًا في فترة من الفترات، والذي استغل الحرب الحقيرة على الإرهاب لتوسيع مناطق سيطرته ضاربًا بعرض الحائط حياة المدنيين الذين سقط منهم عدة آلاف أثناء تحرير/تدمير مدينة الرقة.
هناك على الجانب الآخر مشكلة أخرى، وهي أن لدينا مواقف سياسية وليس فقط حقوقية مما يجري حولنا وعلى أرضنا، فإدانة جميع الأطراف وترديد الكلام الهلامي عديم الفائدة عن أن “ قلوبنا مع المدنيين” لا يخدم أي قضية، وكأن المقاتل مباح الدم والعرض والمال ولم يأت من المدنيين أنفسهم، وهذه الطريقة بالتعاطي تساوي في كثير من الأحيان بين الضحية والجلاد، مثلما حصل مع الثورة السورية حين توضع انتهاكات المعارضة على قدم المساواة مع انتهاكات النظام السوري. حالة اللاموقف هي أسوأ من اتخاذ موقف في كثير من الأحيان.
كصاحب قضية تتمنى انتصارها سيصعب عليك التوفيق بين محاربة خصمك، وبين إدانة الانتهاكات التي يرتكبها أنصار قضيتك أنفسهم وهو ما سيستفيد منه خصمك في النهاية، هذه المعضلة وقعت فيها الثورة السورية في بدايتها حين سكتت عن بدايات الخطاب الطائفي على هامش الثورة الذي ما لبث أن انتقل من هامشها حتى تصدّر مشهدها.
الجمع بين الموقف السياسي والموقف الأخلاقي (وهو هنا الإيمان بأن حقوق الإنسان لا تتجزأ وأن الانتهاك ضده مدان بغض النظر عن هويته) صعب جدًا بالتأكيد، وسيخسر من يتخذه الكثير من الأنصار والأتباع والأصدقاء، ولكنه بالرغم من كل ذلك ضروري، وهو بكل تأكيد أهون من أن يفقد الإنسان احترامه لنفسه أو أن يتحول إلى “ناشط حسب الحالة”.