موتٌ بحكم الحياة.. دير الزور متروكةٌ لقدرها وادي الفرات.. حروبٌ تروي شطوطه وتنسف حضاراته

مايو 12, 2023

عبادة كوجان

مقالات

لم تكن عبثية تلك القصيدة التي خطها الشاعر توفيق قنبر، المولود في دير الزور مطلع القرن العشرين والمتوفى فيها، حينما قال: “وادي الفرات كتاب فيه أسرار قد داعبته حضارات وأقدار.. تروي الشطوط حروبًا لا عداد لها كما روى وحشة الأهوال أغوار“. فحاضرة الفرات وعاصمته تعايش اليوم حروبًا وأقدارًا تنبّأ بها الراحل قبل عقود.

هي بستان الشعراء والمثقفين، ومقصد السيّاح والمستشرقين، عاصمة الشرق السوري ودرة الفرات، مدينة الجسر المعلق

تقع محافظة دير الزور شمال شرق سوريا، ويبعد مركز المدينة عن العاصمة دمشق نحو 400 كيلو متر وعن مدينة حلب حوالي 290 كيلو متر، وهي سادس المحافظات السورية من حيث عدد السكان، والثانية من حيث المساحة بعد محافظة حمص.تعدّ مدينة دير الزور المركز الإداري في المحافظة التي تمتاز بغزارة المدن والقرى على ضفاف نهر الفرات الذي يخترقها قادمًا من الرقة ليكمل طريقه نحو العراق. وأهم المدن فيها: الميادين والبوكمال، إلى جانب بلدات: موحسن، العشارة، القورية، الشحيل، البصيرة، وغيرها. 

بلغ عدد سكان دير الزور نحو 1,666,647 ألف نسمة، منهم حوالي 550 ألف في المدينة، بحسب إحصائية سجلات وزارة الإحصاء في حكومة النظام لعام 2011، ويشكّل العرب ذوو الخلفية العشائرية غالبية سكان المحافظة، إلى جانب وجود ضئيل للأكراد والأرمن.

تعود دير الزور إلى القرن التاسع قبل الميلاد، فدخلت في حكم الآشوريين والسلوقيين والرومان ومن ثم البيزنطيين، إلا أنها لم تكتسب اسمها الحالي إلا في القرن التاسع عشر، حينما أعلن عنه في الدوائر العثمانية.

حظيت المدينة بألقاب عدة، فهي عروس الفرات وعاصمة الشرق، ومدينة الجسور والمقاهي، أما التسمية المفضلة لدى أهلها فتبقى “الدير”.

والجزائر المتناثرة. كلها صفات امتازت بها المحافظة قبل أن تدخل دائرة الصراع بشكل مباشر منذ أكثر من خمس سنوات، فلاقت من الدمار والمجازر والحصار والتهجير بتوقيع عدة أطراف، أبرزها النظام في دمشق.

نزح آلاف المدنيين عن دير الزور على دفعات منذ العام 2012، فيما آثر آلاف آخرون الاستقرار فيها، بين محاصرين في أحياء تخضع لسلطة النظام السوري، وآخرين يرزحون في مناطق تنظيم “الدولة الإسلامية”، فتتلقّفهم الطائرات الحربية متعددة الجنسيات.

حصار بتوقيع “داعش” والأسد

يفرض تنظيم “الدولة الإسلامية” حصارًا على الأحياء الخاضعة لسيطرة النظام السوري في مدينة دير الزور، ما تسبب بأزمات إنسانية حادة للأهالي هناك، فيما لم تفلح المحاولات المتكررة للأمم المتحدة بإيصال المساعدات الإغاثية للأحياء المحاصرة عبر المظلات، من تخفيف وطأة الحصار والغلاء والمعيشة الصعبة هناك.

وتخضع كل من الأحياء التالية لسيطرة النظام، وهي: الجورة، القصور، فيلات البلدية، مساكن غازي عياش، الضاحية وقرية البغيلية شرقًا، وأجزاء من حيي هرابش والطحطوح غربًا، إلى جانب المطار العسكري وجامعة الفرات.

بينما ترزح باقي أحياء المدينة تحت سيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية”، وأبرزها: الرشدية، العرفي، الحويقة، الحميدية، الجبيلة، المطار القديم، الصناعة، كذلك فإن معظم مدن وبلدات ريف دير الزور تخضع للتنظيم، أبرزها: الميادين، البوكمال، موحسن، العشارة، الشحيل، القورية، البصيرة، الحسينية، وغيرها، بحسب مراسل عنب بلدي.

ودخل التنظيم فعليًا إلى مدينة دير الزور في تموز 2014، وباشر بعملية حصار الأحياء الخاضعة للنظام السوري في كانون الثاني 2015، فأغلق جميع المعابر البرية والمائية المؤدية إلى تلك الأحياء، ومنع دخول المدنيين والمواد الغذائية إليها، وقطع كافة كابلات الاتصالات السلكية واللاسلكية والكهرباء.

كما قصف التنظيم هذه الأحياء بقذائف الهاون والصواريخ محلية الصنع على فترات متقطعة، ما تسبب بوقوع ضحايا بين المدنيين (بلغ عدد القتلى نحو 63 قتيلًا، بينهم 14 امرأة و25 طفلًا حتى آذار 2016)، بحسب إحصائية أوردها مرصد “العدالة من أجل الحياة” في دير الزور.

بلغ عدد أهالي مدينة دير الزور قبل آذار 2011 حوالي 550 ألف نسمة، لكن هذا العدد بدأ بالتناقص تدريجيًا مع بدء العمل المسلح، ودخول المدينة على خارطة القصف والغارات، فاستقبلت الأحياء التي حافظ النظام على وجوده فيها آلاف العوائل من المناطق الساخنة، ليصبح عدد المدنيين هناك ما يقارب 300 ألف نسمة.

شهد هذا العدد تناقصًا تدريجيًا، مع المتغيرات الميدانية في المحافظة، وبالتزامن مع إحكام التنظيم حصاره هذه الأحياء، فانخفضت الأرقام من 225 ألف نسمة أواخر عام 2014 إلى نحو 100 ألف نسمة مع مطلع عام 2016، جراء النزوح منها بطرق خطرة ومبالغ مادية كبيرة للسماسرة، بحسب ما صرّح عضو في الهلال الأحمر السوري لعنب بلدي.

يشاطر النظام السوري تنظيم “الدولة الإسلامية” العمل على ترسيخ الحصار في أحياء دير الزور، من خلال الاستحواذ على القسم الأكبر من المساعدات التي أسقطتها الأمم المتحدة بشكل مكثف خلال حزيران الماضي، إلى جانب التسويق لشركة غذائية افتتحت فرعًا لها في الأحياء المحاصرة مؤخرًا، وهي شركة “القاطرجي” المملوكة لتاجر حلبي، وتتلقى دعمًا من “الحرس الجمهوري” بقيادة العميد عصام زهر الدين.

Deer-Al-Zour

مناطق التنظيم.. دمار وتهجير

لم يتبقَ من سكان الأحياء الثلاثة عشر الخاضعة لتنظيم “الدولة الإسلامية” في دير الزور سوى بضعة آلاف، فشهدت هذه الأحياء

 “كانت تعيش في دير الزور قبل الحرب ألف عائلة مسيحية، بينما لم يبق الآن مسيحي واحد في المدينة”المطران جاك بهنان هندو

العريقة موجات نزوح بدأت مع أواخر العام 2011، باتجاه المناطق الأكثر أمنًا في المحافظة، لكنها بلغت حدودًا قياسية عقب دخول التنظيم إلى المدينة في تموز 2014.

قبيل دخول التنظيم إلى دير الزور، وتحديدًا عقب سيطرة “الجيش الحر” على جسر السياسية في آذار 2013، بدأت المدينة تشهد عودة خجولة لبعض مهجريها، فبلغ عدد السكان مطلع عام 2014 نحو 25 ألف نسمة في الأحياء الخارجة عن سيطرة النظام، ليتناقص العدد تدريجيًا إلى نحو أربعة آلاف مواطن خلال العام 2016، بحسبما أفاد عضو سابق في المجلس المحلي عنب بلدي.

وشهدت أحياء التنظيم دمارًا كبيرًا خلفته المعارك المستمرة على خطوط التماس مع قوات الأسد، إلى جانب الغارات والقصف المتواصل على الأحياء شبه الخالية، فتوضح التسجيلات المصورة والصور القادمة من هناك أن المدينة باتت أكوامًا إسمنتية دون حياة، بينما تنشط المعارك بين الفينة والأخرى، بين تنظيم يسعى مرارًا لتقليص مساحة سيطرة الأسد، ونظام يغذي قواته بميليشيات محلية، ويأبى تسليم مناطقه.

الوضع في الريف الشرقي يبدو أكثر استقرارًا منه في المدينة، فهناك حيث الأراضي الزراعية على ضفاف الفرات، والكثافة السكانية المقبولة حتى اليوم، رغم إمعان التنظيم في تطويع العشائر العربية هناك للقتال في صفوفه، كما حصل مع عشيرة الشعيطات التي تعرضت لمجزرة على يد مقاتلي التنظيم في آب 2014، راح ضحيتها حوالي 600 شخص (367 قتيلًا و240 مفقودًا) و33 ألف نازح في مدينة أبو حمام وقريتي الكشكية وغرانيج التابعة لها، وفق توثيقات الشبكة السورية لحقوق الإنسان.

13501742_1058755334217905_7764482053968994554_n

لكن هذا الاستقرار يبقى نسبيًا في ظل استمرار استهداف المدن والبلدات الشرقية من قبل طيران النظام السوري والروسي، أو حتى التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، فعلى سبيل المثال لا الحصر، أوقعت غارات التحالف الدولي خمسة مواطنين في مدينة البوكمال في تموز 2015، بينما كانت المجزرة الأكبر خلال العام الجاري بتوقيع موسكو، فأحصى المرصد السوري لحقوق الإنسان مقتل 82 مواطنًا بغارات روسية على بلدة القورية في 25 حزيران الماضي.

يبقى الريف الغربي أكثر هدوءًا، باعتباره ذا كثافة سكانية قليلة قياسًا على الريف الشرقي، ويخضع أيضًا لسيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية”، وكانت قراه وبلداته مسرحًا لغارات جوية تسببت بمقتل عشرات المدنيين خلال العامين الماضيين، وفق ناشطين.

الجانب العسكري في المحافظة

يسيطر النظام السوري على مساحة قدرها 4,7 كيلو متر مربع من أصل المساحة الكلية لمحافظة دير الزور البالغة 33 ألف كيلو متر

 أسعار بعض المواد الغذائية في أحياء دير الزور المحاصرة خلال شهر رمضان: 1 كيلو غرام سكر: 14500 ليرة سورية، 1 كيلو شاي: 16 ألف ليرة، 1 ليتر زيت: خمسة آلاف ليرة، 1 كيلو بطاطا 2500 ليرة، 1 كيلو بصل: ثلاثة آلاف ليرة، 1 كيلو تمر: ستة آلاف ليرة.منظمة “دير الزور 24”

مربع، في حين يسيطر تنظيم “الدولة الإسلامية” على مساحات واسعة وذات امتداد جغرافي مع محافظتي الرقة وحمص في سوريا، إلى جانب الحدود المفتوحة مع العراق، ولا سيما في منطقة البوكمال المقابلة لمدينة القائم العراقية.

ورغم ذلك، لم يتمكن التنظيم من طرد قوات الأسد من المناطق الخاضعة لها في المدينة، أو المراكز العسكرية القريبة منها كالمطار العسكري ومعسكر الطلائع وجبل الثردة، في معارك مستمرة منذ نحو عامين، سعى من خلالها التنظيم جاهدًا لفتح ثغرات تضعف موقف النظام السوري، دون تقدم يذكر، بل على العكس، تحاول قوات الأسد المدعومة بميليشيات محلية التغلغل في أحياء التماس كالرشدية والموظفين وغيرها.

مؤخرًا دخلت فصائل تابعة لـ “الجيش الحر” على الخارطة، فشنّ “جيش سوريا الجديد” المدعوم غربيًا هجومًا على مواقع التنظيم في منطقة البوكمال، 28 حزيران، وفرض سيطرته على مطار الحمدان العسكري قرب المدينة، قبل أن ينسحب تحت ضربات التنظيم ويفشل في العملية برمتها، ويفقد عشرات من مقاتليه وعتاده العسكري الجيد، بحسب ما نشرت وكالة “أعماق” التابعة للتنظيم.

وقال الباحث والخبير العسكري، براء الطه، إن الخطة التي بدأت بإنزال جوي من مقاتلات أمريكية لنحو 200 عنصر من “جيش سوريا الجديد”، ترتكز على “تحرير مطار الحمدان ومن ثم الانتقال إلى المدينة، وأخيرًا تتوج العملية بإغلاق الحدود، وعلى الأغلب من جانب واحد بداية”.

ورأى الطه في مقال له عبر موقع عنب بلدي، “عمليًا لا يكمن البدء بعملية كبيرة كهذه، تهدف أولًا وأخيرًا إلى إغلاق الحدود السورية- العراقية، بإلقاء عاتق المهمة على قوات قليلة العدد، خبرتها القتالية ضحلة، مقارنة بخبرة وعدد مقاتلي تنظيم الدولة”، وتابع “لخوض معركة إغلاق الحدود يجب أن تتضافر عدة جهود وقوات، في آن واحد، بغية تشتيت قوات تنظيم الدولة، ولمنع تفردها بقوة مهاجمة وحيدة كما حدث في البوكمال”.

إذن، باتت الخارطة العسكرية في دير الزور تتسع لثلاثة أطراف: تنظيم “الدولة الإسلامية” وهو اللاعب الأكبر فيها، والنظام السوري المتمركز في بعض أحياء المدينة وعلى أطرافها، والجيش الحر الذي دخل المحافظة فعليًا من المحور الجنوبي الغربي، ما يجعل التنبؤ بمستقبل المحافظة ضبابيًا إلى حد ما، لا سيما أن الغرب يسعى بداية إلى تقليص نفوذ التنظيم في الرقة وريف حلب الشرقي دون حسابات كبيرة لدير الزور.

تقصير إعلامي في مواكبة تطورات المحافظة

13438891_10157296924865727_896229938411538341_n

باعتبارها إحدى مدن تنظيم “الدولة الإسلامية”، سعى الإعلام إلى تغطية أخبار معارك التنظيم أو الغارات التي تستهدفه، دون الحديث عن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والصحية لأبنائها المحاصرين أو أولئك المقيمين في مناطق التنظيم، ما دعا بناشطيها إلى تسميتها “الدير المنسية”.

يلقي الأستاذ أحمد الخالدي، عضو منصة العمل المدني في دير الزور، باللائمة على الإعلام السوري في تهميش قضية دير الزور،

 “يبدو أن جيش سوريا الجديد على وشك أن ينقرض في أولى معاركه في البوكمال.. 40 قتيلًا و15 أسيرًا وخسارة العديد من الآليات بعضها محمل بالذخائر”خليل المقداد- صحفي سوري

تلك المدينة التي خرجت مبكرًا ضد النظام السوري، وشهدت مظاهرات وصفت بـ “المليونية” نادت بإسقاط بشار الأسد، ويقول “التغطية الإعلامية سيئة جدًا ومؤلمة. مايحدث في دير الزور منذ عامين هو غيابٌ تام عن الحالة الثورية والإعلامية والمجتمعية والإغائية والعسكرية”.

ويسترسل الخالدي في توصيف وضع محافظته على مضض “دير الزور (المحررة) باتت اليوم بين مطرقة الجوع وسندان الذبح، الوضع الأمني سيئ جدًا، القصف على مدار الساعة، وحالات نزوح متكررة، والحياة شبه مستحيلة في ظل قوى لا تقبل بالحياة كمنهج، حتى الخروج من المنزل هو مغامرة”.

ويتابع في حديث إلى عنب بلدي “تشكو أحياء النظام من قمع يومي، وسياسة تجويع قاتلة، وسحب الشباب بشكل عشوائي لمناطق القتال، كما أن أدوات الطبابة والخدمات الصحية تكاد تكون مهمشة.. أهالي الدير محاصرون حصارًا مزدوجًا بالنتيجة”.

أما ريم ديواني، الناشطة الإعلامية والمدنية في دير الزور، فبدت أكثر انتقادًا للإعلام “الثوري” في تغطيته أحداث المحافظة، “لم يساهم الإعلام بإيصال الحقيقة في الداخل السوري عامة ودير الزور خاصة، بدمارها وحصارها ودماء شهدائها ومعتقليها”، وتابعت لعنب بلدي “لم تسهم أي جهة إعلامية ثورية بإنجاح الثورة السورية، سوى ناشطين إعلاميين سوريين جهدوا ومازالوا يعملون لإيصال الصورة الحقيقية”.

بينما ينظر آخرون إلى أن الأوضاع الأمنية في مناطق سيطرة التنظيم، في الرقة ودير الزور وريف حلب الشرقي، تفرض نوعًا خاصًا من التغطية الإعلامية، إذ يعتبر التنظيم الإعلام الثوري مضادًا ويجب محاربته، ويتهم الصحفيين العاملين في مجال توثيق الانتهاكات بأنهم مرتدون، وأقدم مؤخرًا على إعدام خمسة ناشطين إعلاميين وحقوقيين في المدينة، وهم: سامر عبود، محمد العيسى، مصطفى حاسة، سامي الرباح، محمود الحاج خضر.

تتشابه ظروف دير الزور مع العديد من المدن السورية التي أنهكتها الحرب ودمرت تراثها وتاريخها خلال أعوام الحرب الخمسة، لكن ذلك لا يقف حاجزًا أمام آمال وأمنيات مهجريها والمحاصرين فيها، بعودة مدينتهم إلى ما كانت عليه سابقًا، والنهوض بجسرها المعلق، فالكثير من الحروب روت شطوط الدير بالدماء منذ قديم الزمن، لكنها لم تنل منها.

المصـــدر

المزيد
من المقالات