من الدروس المُستفادة من فترة “الهدنة”، وإن قيل عنها نسبية، أو غير كاملة، أو منقوصة، هو درس التظاهرات التي شهدتها أرجاءٌ مختلفة من المدن والقرى السورية، والتي أعادت إحياء الفكرة التي وُلدت من رحمها الثورة السورية في 2011. والدرس ليس التظاهرات في حد ذاتها، بل ما يُحركُ هذه التظاهرات: الإرادة العارمة لدى أبناء هذا الشعب في التعبير عن الرأي والمشاركة، من دون وسيط، أو تمثيل زائف، وإعلاء الصوت، مباشرةً ومن دون رتوش.
يقوم القانون الدولي لحقوق الإنسان على ركن أساسي في تنفيذه وتطبيقه، ويتمثل في مسؤولية “الدولة” وكفالتها للتمتع بالحقوق الواردة فيه، أي القانون. وإن رغبنا في الحديث نظريًا عن مسؤولية الدولة السورية عن كفالة هذه الحقوق، فهناك معضلتان. أولاهما أن الدولة المُتعاقدة مع هذا القانون، هي خصمٌ للقانون والحقوق، كما هي بالتالي خصمٌ لأولئك الذين تتوجب كفالة حقوقهم.
والمعضلة الثانية، أن من الصعب الآن رسم إطار واقعي لامتداد “الدولة” أو حتى ما يشبهها ويُشابهها. فعلى سبيل المثال، تقوم في بعض المناطق سلطات بعض الفصائل والتنظيمات، وتتشابك هذه السلطات أحيانًا، وتختصم أحيانًا أخرى، من دون أن يعني على الإطلاق تماهيها في إطار دولة. لكنها تبقى، دولةً أم لا، سلطات الأمر الواقع، وبموجب ذلك تقع على كاهلها، شاءت أم أبت، مسؤولية كفالة حقوق من تحكمهم.
حين تصمت البنادق، ويسكت هدير المدافع والطائرات، وحتى لو جادل بعض الثائرين بأن ذلك نسبي، أعاد السوريون استلهام لحظات ولادة حراكهم السلمي ولربما ليس بالإمكان الآن إعادة انتاجه على نحو كامل وشامل، لكن يتوفر الآن دليل على أن الجمهور يريد العودة وبقوة الى المكانة التي غيبتها شراسة السلاح وبطش المتحاربين من كل الأطراف.
الشعب ما زال يريد إسقاط النظام. صحيح، لكن الأهم برأيي ليس هذا الشعار المفتوح على مصراعيه من خمس سنوات من دون ملامح واقعية. الأهم، هو أن الجمهور متمسكٌ بحقه في ابداء رأيه الصريح. وليس فيما أسجله هنا على الأقل أي انتقاص من أي دور لعبه أي طرف سياسي في المرحلة الماضية، لكن ما أسجله، ويسجله حراك الناس الآن، هو موقفٌ واضح لا يقبل اللُبس، بأن الجمهور يريد إعادة استلام زمام المبادرة.
في الحراك الحالي، هناك فرصٌ وإمكانيات، أقلها فرض مساحة مدنية، وسلمية، للتبادلات والتجاذبات السياسية التي غيبها السلاح. البندقية لا تحل محل إرادة الناس، وكان علينا أن نفهم ذلك من دروس الآخرين، وتأخرنا. علينا أن نُفهم سلطات الأمر الواقع، وسلطات النظام الخصم، أن عليهم التعامل مع شعبنا باعتباره لاعبًا اساسيًا، وليس مغلوبًا على أمره.