للمخفر دور هام في توطيد الاستقرار وإرساء حالة الأمن والأمان في المدن والقرى، فضلًا عن دوره في تنظيم أمور المواطنين وفض النزاعات بينهم. ويعتبر المخفر مركزًا حكوميًا تابعًا لجهاز الشرطة في الدولة، وهو مؤسسة رئيسية في منظومة الأمن الداخلي في جميع المدن السورية، والتي تستطيع الدولة من خلالها إحكام القبضة على البلاد من خلال نظام ربط بين المخافر ومراكز الشرطة مع وزارة الداخلية وقوى الأمن الداخلي.
وقد استغل النظام السوري هذه الميزة في المخافر منذ بداية الثورة لمحاصرتها وللإبلاغ عن أماكن خروج التظاهرات والتجمعات، وقد استخدمت (بصفتها مراكز حكومية) لقمع المتظاهرين واعتقال النشطاء، وكانت مراكز لتجمع القوى الأمنية والعسكرية التي كان يستقدمها النظام من خارج المدن، ومنطلقًا لقمع الحراك الشعبي فيها.
وفي داريا، لعب المخفر نفس الدور، مع التذكير بأن عناصر وموظفي المخفر وحتى رئيسه نأوا بأنفسهم عن أي عمليات قمع أو ملاحقة للنشطاء، وفي كثير من الأوقات لعبوا دورًا إيجابيًا في تنبيه الأهالي وتسريب بعض المعلومات الأمنية لهم، إذ أُرهب عناصره كما أرهب بقية موظفي الدولة من قبل عناصر خاصة تابعة للأسد (كالشبيحة والفرقة الرابعة) حتى أن قوات الأسد قامت بقتل رئيس المخفر العميد محمود العمر ومساعده بعد اقتحامهم لداريا في الحملة الأولى أواخر آب 2012 بحجة انحيازهم للمواطنين. وقد تقلص الدور الرسمي للمخفر بشكل كبير بعد تلك الحملة، إذ كثيرًا ما تقدم الأهالي بشكاوى سرقة أو اعتداء، لكنها كانت تواجه دائمًا من قبل عناصر المخفر بعبارة «مو انتو بدكن حرية؟ روحو حلو مشاكلكن بإيديكن»، وفي هذه الأثناء بدأت بعض القوى المنظمة في الجيش الحر بتنظيم دوريات في المدينة تعويضًا عن غياب دور الدولة، وذلك بعد انتشار السرقات في المدينة والمشاكل بين المواطنين، وكثيرًا ما كان المواطنون أنفسهم يحتكمون إلى عناصر الجيش الحر عند نشوب أي خلاف بينهم، الأمر الذي خلق مشكلة جديدة في المدينة، وهي تسليم الفصل في الأمور المدنية إلى جهات عسكرية غير مؤهلة للقيام بهذا الدور.
ومع تأسيس المجلس المحلي للمدينة، وبعد بدء الحملة العسكرية الثانية على داريا وازدياد الحاجة إلى وجود جهة ذات سلطة تستطيع إيقاف عمليات السرقة والفوضى الناتجة عن عمليات النزوح والتنقل العشوائي جراء القصف اليومي، برزت الحاجة لتشكيل مخفر بديل يقوم بتنظيم أمور المدينة، فبادر مجموعة من الناشطين والثوار المختصين بالقانون، وضمن إمكانيات محدودة وبالتنسيق مع المكتب العسكري (التابع للمجلس المحلي) بتشكيل مخفر جديد تابع للثورة.
جريدة عنب بلدي أجرت مقابلات مع عدد من المعنيين في المخفر الذين أطلعونا على صورة الوضع الحالي فيه في ظل الحصار والقصف الواقع على داريا.
يقول الأستاذ أبو فارس (وهو أحد مؤسسي المخفر) إن تأسيس المخفر يعود لتاريخ 17/12/2013 أي بعد حوالي شهرين من بدء الحملة العسكرية الأخيرة على داريا، في ظل القصف والحصار المطبق على المدينة؛ وقد ساهم بتأسيسه الشهيد حامد أبو ياسر الذي كان مسؤولًا عنه ورئيسًا له، قبل أن ينخرط في صفوف الجيش الحر مع تصاعد الحملة.
ويضيف: «في البداية كانت الفكرة فقط لحماية الممتلكات من السرقة، ومن ثم تطورت لمحاسبة المخطئين والمتجاوزين للقانون، حتى بات من الضروري أن تكون على شكل شرطة ومخفر.»
ويؤكد الأستاذ أن المشرفين والمسؤولين عن هذه المؤسسة يتم اختيارهم من قبل المجلس المحلي أو المكتب التنفيذي التابع للمجلس للمحلي، ويتم انتقاؤهم وفق معايير معينة كأن يكون الشخص مختصًا بالقانون أو له صلة بالإدارة، ولديه إلمام في هذا المجال، كما يؤخذ بعين الاعتبار ما يعرف عن الكادر بحسن السمعة والسلوك.
«في البداية كان هناك ثلاثة محامين أشرفوا على سير الأمور، ومن ثم سلموا إدارة المخفر لشباب ثوريين متواجدين في الداخل، وبسبب غياب السلطة القضائية (لنقص الكوادر) يقوم فريق التحقيق بالتواصل مع جهات قضائية خارج داريا عبر وسائل الاتصال – رغم صعوبتها- لمعرفة حكم قضائي معين، ولتفادي هذا النقص أصبحت هناك مؤخرًا خطة للتعاون مع المكتب القانوني التابع للمجلس المحلي حيث يتواجد في المكتب محاميين وشرعيين.»
ومع تفاؤله بخطة ثوار ونشطاء داريا لتأسيس سلطات بديلة لمستقبل سوريا، يقرّ الأستاذ أبو فارس بأن المخفر لا يستطيع أن يقوم بدوره المثالي وفق المعايير المطلوبة، وأن واقع المعركة الدائرة في داريا يجعل من المتعذر أحيانًا تطبيق القوانين والعقوبات بحق المخالفين، إذ إن المخفر نفسه عرضة للانتقال وتغيير مكانه بين ساعة وأخرى.
من جهة أخرى يؤكد رئيس المخفر الحالي في حديثه لعنب بلدي عن ضرورة وجود المخفر في ظل هذا الوضع، لما له من دور في ضبط الأمور والحفاظ على ممتلكات الناس، ولا سيما في ظل غياب المؤسسة الرسمية التابعة للنظام، والتي كانت مسؤولة في السابق عن هذا الجانب، والهدف من المخفر هو خلق بديل يتناسب مع الوضع الحالي للحفاظ قدر الإمكان على دوره في حفظ ممتلكات الناس وأمنهم، فهو أساسي في كل منطقة.
يتابع رئيس المخفر: «تم درج مهام المخفر تحت خمسة أقسام بدءًا من رئاسة المخفر (والمتمثلة بأربعة أشخاص)، ثم القسم العسكري، والقسم المدني، وقسم التحقيق، وقسم الحراسة (عناصر دوريات)».
وتشمل صلاحيات المخفر المسائل المدنية المتعلقة في حل النزاعات، وتنظيم أمور المدنيين، كتنظيم دخولهم وخروجهم إلى منازلهم ومنازل أقربائهم لنقل المحتويات والأمتعة أثناء النزوح والخروج من المدنية، حيث يتم تسجيل ذلك ضمن سجلات مدنية وعسكرية، وهذا ما أكده لعنب بلدي عدد من النازحين الذين دخلوا إلى داريا لإخراج حاجياتهم بعد أشهر من بداية الحملة العسكرية، إذ حصل بعضهم -بعد التأكد من هوياتهم – على ورقة مختومة من المخفر للسماح لهم بإخراج ما يحتاجون من منازلهم، وذلك لتسهيل مرورهم على نقاط تفتيش الجيش الحر.
كما يعنى المخفر أيضًا بالإشراف على الأمور العسكرية، وله صلاحيات واسعة في المحاسبة والعقاب بحسب نوع الجرم المرتكب، لكن عوائق عدة تحول دون ممارسة تلك الصلاحيات، كامتلاك عدد كبير من أهالي المدينة أسلحة فردية بسبب سوء الظروف الأمنية التي سبقت تشكيل المخفر، ووجود السلاح بأيدي عناصر الكتائب المقاتلة، الأمر الذي يجعل حل النزاعات فيما بينهم أمرًا صعبًا ومحفوفًا بالمخاطر، لكن المخفر يحاول جاهدًا فرض سلطته على أبناء المدينة المدنيين منهم والعسكريين، ويقوم بتوجيه استدعاءات خطية لأطراف المشاكل أو النزاعات للحضور إلى المخفر، وفي حال عدم الاستجابة يحال الأطراف المعنيون إلى المجلس العسكري ليتولى بدوره حل النزاع. ويتم حل الأمور إما بالصلح أو بالسجن كما يقول رئيس المخفر، ويضيف « تكون العقوبات رياضية، كالوقوف لوقت طويل وما شابه، أو تخويف المتهم بالضرب، ومن الوسائل الأخرى المتبعة في المحاسبة: السجن في المنفردات، والعقوبة النفسية من خلال منع الزيارات والاتصالات.»
ويتبع للمخفر سجن بعدة زنازين تتوفر فيها الخدمات إلى حد مقبول، كما تم مؤخرًا تزويد السجن بتلفاز ومكتبة، وعين فيه أيضًا مشرفين يقومون بمتابعة السجناء صحيًا ونفسيًا، وآخرون يقومون بتعليم وتحفيظ القرآن، ويوجد حاليًا في سجن المخفر 20 سجينًا من مدنيي داريا وعسكريي الجيش الحر، وثلاثة أسرى من قوات النظام.
ويقول رئيس السجن بأن القائمين عليه يحاولون الخروج به من صورة سجن النظام ومفهومه في التعامل مع المعتقلين، وأنهم يحاولون التعامل بطريقة إنسانية حتى مع الأسرى، ويسمحون لهم بالاتصال بأهلهم وطمأنتهم.
ويعاود رئيس المخفر التأكيد على ضرورة وجود هذه المؤسسة لمحاسبة جميع الأطراف، وحماية الأملاك وتنظيم عملية الاستفادة من المواد الغذائية والتموينية الموجودة في المحلات والمستودعات والمنازل التي هجرها أصحابها بسبب النزوح، والتي أصبحت عرضة للسرقة والحرق أو القصف من قبل قوات النظام، إذ يقوم المخفر بتنظيم عملية السحب والاستجرار من هذه المستودعات والمنازل ويقوم بتدوين المواد والكميات المسحوبة وطرق توزيعها من أجل حفظ حقوق أصحابها وتعويضهم في المستقبل «قدر الإمكان».
وقد عانى القائمون على المخفر في بداية تأسيسه من عدم ثقة الناس بهذه المؤسسة البديلة وذلك بسبب النظرة السابقة لدى الناس عن مخافر النظام ومؤسساته الأمنية، والقائمة على الرشاوى والمحسوبيات وخرق القوانين، لكن الأهالي بدأوا شيئًا فشيئًا يلتزمون بالقوانين ويرضخون لسلطته ويراجعونه في أمورهم (نزاعات – سرقة – شكاوي)، إذ يقوم المخفر برد الحقوق لأصحابها وبإعادة تنظيم أمورهم وتسهيلها.
ويسعى مخفر داريا الحالي والتابع للمجلس المحلي لمدينة داريا بأن يلعب دوره في المستقبل كمؤسسة بديلة حقيقية قادرة على رد الحقوق لأصحابها وتنظيم أمور الناس وتسهيلها كي يرسخ المعنى الحقيقي لمفهوم «الشرطة في خدمة الشعب».