يكاد الباحثون يُجمعون على وصف الهوية السورية بالهشاشة نتيجة لأسباب عديدة. منها العمر القصير نسبياً للكيان الجغرافي الحالي للبلاد، ووقوعها فوراً تحت تأثير تيارات آيديولوجية وسياسية نظرت إليه بوصفه مرحلة مؤقتة معيبة باتجاه ما هو فوقه؛ الأمة العربية بالدرجة الأولى بفعل النزعة القومية، أو الإسلامية التي دعت إليها التيارات الدينية، أو السورية الموسعة التي تشمل الهلال الخصيب، وأخيراً الأممية التي بثتها الحركة الشيوعية.
وذلك فضلاً عن اختراق النزعات الأهلية، من طائفية ومناطقية وعشائرية وقرابية، بنية الدولة الناهضة بعد الاستقلال، سلطة وكتلاً وأحزاباً وانقلابيين. حتى صار من الممكن تحديد موضع تركز قاعدة تيارات، ربما كانت ذات أفكار حداثية، في هذه الإثنية أو الطائفة أو تلك.
وإلى هذا الضعف يُعزى وقوع سوريا في كارثة ما شاع وصفه بأنه «حرب أهلية»، استنفرت فيها طائفةٌ مهيمنة على الحكم أقصى إمكاناتها التعبوية البشرية في وجه ما بات يتثفل، بصورة متزايدة عبر السنوات، على أنه ثورة ذات طابع سنّي غالب. في حين سلكت مجموعات أخرى مسارها العام المستقل، كما تجلى في الحالة الكردية وفي وضعية محافظة السويداء.
أخفقت الوطنية السورية، إذاً، في إقناع عموم السوريين بأن هذه الثورة، التي أعلنت عن نفسها بشعارات جامعة متكررة عام 2011، هي ثورتهم جميعاً. على الرغم من تسمية أيام الجمع/ محطات الاحتجاج: صالح العلي؛ آزادي؛ سلطان الأطرش؛ العشائر وغيرها. وبالمقابل انقسم المجتمع على خطوط الطوائف والعشائر والمدن والمناطق وحتى العائلات في البلدات. وجرى تفسير كل ذلك بالاعتلال التكويني للهوية الوطنية المنخورة بالجماعات، مما يعيق أي تطلع جاد راهناً إلى دولة المواطنة التي يتساوى أفرادها أمام القانون بغض النظر عن هوياتهم تحت الوطنية.
كان هذا صحيحاً، وقد شاع إلى درجة أن هدف الدولة الحديثة بات يبدو كحلم يقظة يخص مثقفين معزولين في أحزاب صغيرة وتجمعات هرمة، من دون إمكانية لتطبيقه على المدى المنظور.
غير أن هذه الوطنية الكليلة، التي لم تقدّم لأبنائها نفعاً جدياً في مأزقهم الدموي، ظلت قادرة، رغم ذلك، على أن تسبب لهم ما يكفي من الضرّ عندما تقفز فجأة في مناسبات محددة تخصها، وكأنها المستر هايد، الشاب المستهتر القوي ذو الوجه الدميم، إذ يحل متى شاء محل الدكتور جيكل، الكهل المحترم الفاضل قليل الحيلة، في الرواية الشهيرة لستيفنسون. لأن المناسبات التي تبدو فيها هذه الهوية قوية مواقف عدوانية، أو مظلومية تشي بعدوانية مقلوبة. فلا تتماسك إلا بالضد من «عدو» ما، حقيقي أو مضخّم.
في هذه الأوقات، وبعد فشلها في وظيفتها كصمام أمان لمجتمعها، تُفعم الهوية السورية نفوس أفرادها بشعور متوهم بالعظمة يستند إلى طفالة نرجسية تزعم، دون حسيب ولا رقيب، أن سوريا أجمل بقاع الأرض، وأن «أفضالها» عمت الإقليم، وربما البشرية، ماضياً وحاضراً. ولولا أن السوري المتفرد، الأمير الحزين المهزوم، وقع ضحية مؤامرة دمرت فردوسه لما تحكّم به الشرطي في المطار هنا أو موظفة السوسيال هناك. السوري ضحية مؤامرة؛ هي تلك الكونية المزعومة إن كان من مؤيدي الأسد، أو هي مكيدة «أصدقاء سوريا» والعالم على الثورة إن كان من أنصار هذه الأخيرة. ولذلك لا يندر أن ينحّي سوريون اصطفافاتهم جانباً في جلسة لطم عابرة في أحد بلدان اللجوء، ليتفرغوا للرثاء المشترك للذات الجمعية بماضيها المختلق. كما لم يتورع معارضون عن تذكر حافظ الأسد في مواجهة «خصوم لسوريا الدولة»، مستحضرين أسوأ ما في مسيرته من قمع تجاه الأكراد واللبنانيين مثلاً، لم يكونوا «ليرفعوا رؤوسهم» في زمانه!
أما السياق الثاني الذي تمد فيه الوطنية السورية رأسها المشوه فهو ما شهدنا إحدى مناسباته قبل أيام، عندما قصفت طائرات إسرائيلية مدرج مطار حلب وبعض تجهيزاته الملاحية، وثنّت بمطار دمشق ومواقع أخرى حول العاصمة، بهدف قطع الطريق على نقل أسلحة متطورة من إيران إلى الميليشيات المرتبطة بها في سوريا ولبنان. وإذا كان غضب مؤيدي النظام من ذلك مفهوماً ومنسجماً سياسياً فإن الأصوات التي تنبعث عادة من صفوف الثورة، وبين الرماديين، في استنكار هذا القصف ما تزال غريبة رغم تكرارها واستنادها إلى الحجج ذاتها التي تغفل عن الراهن وتستذكر فقط أن هذه الأرض «سورية» وأن هذه الأهداف مطاراتـ«نا»، بشكل مجرد عن وظيفتها الحالية وسبب قصفها، وكأننا في نشيد وطني مزمن.
عبر مطار حلب، مثلاً، وصل عشرات آلاف المتطوعين من العراق وأفغانستان وباكستان وإيران، وأسلحتهم التي قتلوا بها أولاً أهل حلب، وريفها، وإدلب.. فأي محاكمة منطقية تلك التي تأسف لتعطل هذا الشريان ليومين، أياً كان الفاعل ومهما كانت أهدافه النابعة من مخاوفه الخاصة.
لقد سبق لأحد الرموز الذائعة الصيت في الثورة، وهو الشهيد العقيد أبو فرات (يوسف الجادر) أن كسب قلوب سامعيه حين قال: «والله مزعوج لأن هي الدبابات دباباتنا، وهاد العتاد عتادنا»، لكن ذلك كان عقب أن انتصر في معركة «مدرسة المشاة» ودمّر خلال ذلك ما احتاج إليه الأمر من «دباباتنا وعتادنا». بل إن دبابة واحدة منها، لم يدمرها أو يفتشها، هي التي أدت إلى مصرعه قبل أن يجف حبر كلامه ذاك!
من سوء حظ السوريين أن هويتهم الوطنية ليست ناضجة إلى الحد الكفيل بمنع الحرب بينهم ويؤدي إلى تداول سلمي للسلطة، لكنها نامية إلى الدرجة الكافية لتعقّد علاقاتهم بالعالم وتجعلهم متوفزين وجاهزين لحروب شعورية وخطابية تجاه أي محيط ولأبسط الأسباب.