انتهى رمضان الثورة التاسع – المنصرم – في وقت كانت فيه منطقة إدلب تعيش أصعب أيامها، إثر حملة شرسة اجتاح فيها جيش الاحتلال الروسي ريف حماة الشمالي باتجاه إدلب في مارس/آذار 2019، في خرق واضح لاتفاق سوتشي الذي وقعه الحلفاء الثلاثة (روسيا – تركيا – إيران) في أغسطس/آب 2018، الذي كان يقضي بهدنة تجنب منطقة إدلب القصف والمعارك.
منطقة إدلب
شملت المنطقة المعروفة إعلاميًا باسم “منطقة إدلب” كامل محافظة إدلب، إضافة إلى أجزاء من ريفي حلب الغربي والجنوبي والشمالي، وأجزاء من ريف حماة الشمالي وريف اللاذقية، حيث تشكل هذه المنطقة جزءًا من الشمال السوري المحرر الذي يشمل إضافة إليها أجزاءً من ريف حلب الشمالي في عفرين وإعزاز ومارع وجرابلس، مع منطقة الباب في ريف حلب الشرقي، وهي المناطق التي يسيطر عليها “الجيش الوطني السوري” الذي أشرفت تركيا على تشكيله وضم كل تشكيلات الجيش الحر في المنطقة ضمن صفوفه.
بينما تسيطر على منطقة إدلب بشكل أساسي “هيئة تحرير الشام” التي تُعتَبر امتدادًا لجبهة النصرة، إضافة إلى الجبهة الوطنية للتحرير، التي ضمَّت كبرى فصائل المنطقة مثل أحرار الشام وحركة نور الدين الزنكي وفيلق الشام، وذلك بعد أن تمكنَت الهيئة من السيطرة على معظم مقرات الأحرار مسببة تضعضع الحركة في أغسطس/آب عام 2018، كما اندلعت في المنطقة عدة اشتباكات بين “الزنكي” و”الهيئة”، حتى تمكنت الأخيرة من إنهاء الزنكي وطرده من مناطقه في ريف حلب الغربي إلى ريف حلب الشمالي ليحل الفصيل نفسه منضمًا إلى الجيش الوطني بدايات عام 2019.
ورغم أن الجبهة الوطنية للتحرير شكّلَت – وما زالت – تشكل ثقلًا عسكريًا كبيرًا في المنطقة، فإن السيطرة على منطقة إدلب إداريًا وأمنيًا انفردَت به “الهيئة” التي شكلَت “حكومة الإنقاذ” ككيان حكومي يدير منطقة إدلب منذ نوفمبر/تشرين الثاني عام 2017، لتتّسع خطوات الهيئة منذ ذلك الحين باتجاه خطاب معتدل، وصل حد تقبلها علم الثورة، الذي كان لديها في مراحل سابقة “راية كفرية”.
أما في المناطق التي تشرف عليها تركيا بشكل مباشر في ريفي حلب الشرقي والشمالي، التي ينتشر فيها الجيش الوطني، فتمثل “الحكومة السورية المؤقتة” الكيان الحكومي فيها، حيث تتولى إدارة المنطقة مع عشرات مجالس المدن والبلدات والقرى التي ما زالت تتمتع باستقلالية كبيرة عن الحكومة، بينما تنسق جميعها مع الجانب التركي.
الحملة الروسية
بدأت روسيا منذ يناير/كانون الثاني 2019 التصريح بعدم التزام الجانب التركي بتنفيذ اتفاق سوتشي كاملًا، حيث دخلت منطقة إدلب ككل حالة توتر انتهت في 9 من مارس/آذار من العام نفسه بأول غارة جوية للروس على بلدات ريف إدلب منذ مدة، ثم تلاحقت بعدها المجازر والغارات على أرياف حماة الشمالية وإدلب الجنوبية، متسببة بموجة نزوح واسعة من المنطقة، تلاها اجتياح قطع عسكرية من جيش نظام الأسد بغطاء ناري روسي كثيف.
وعلى مدار الشهور اللاحقة وبعد خرق روسيا لاتفاقَي تهدئة وُقِعا خلالها، وتدمير سلاح الجو الروسي مدنًا وبلدات وقرى ريفي حماة الشمالي وإدلب الجنوبي، تمكنت القوات المهاجمة من الوصول إلى مدينة خان شيخون جنوبي إدلب، بعد معارك شرسة استبسل فيها ثوار المنطقة وخسروا فيها العديد من نخبهم العسكرية وعلى رأسهم صوت الثورة وحارسها عبد الباسط الساروت، لتنتهي المرحلة الأولى من الحملة في 30 من شهر أغسطس/آب.
استكملت روسيا المرحلة الثانية من حملتها أكثر شراسة في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، مجتاحة ريف إدلب بجبهة واسعة، كما انضمت إلى الحملة الميليشيات الإيرانية التي بدأت تهاجم ريف حلب، ورغم زج تركيا بأعداد كبيرة من قواتها العسكرية عبر الحدود باتجاه منطقة إدلب، وإنشائها عددًا من نقاط المراقبة التي تمركزت فيها قواتها على محاور التقدم الروسي في محاولة لإيقاف عملياتها، فإن الحملة الروسية استمرت دون مبالاة بالتحركات التركية أو تصريحات قيادتها شديد اللهجة، وأخذت قواتها تتقدم محاصرة النقاط التركية في طريقها دون التعرض لها بشكل مباشرة، حتى وصلت إلى “جبل الزاوية”، إضافة إلى احتلالها مناطق واسعة من محافظة إدلب ضمت مدينتي “معرة النعمان” و”سراقب”.
كما تمكنت ميليشيات إيران من احتلال الراشدين وخان العسل والبحوث العلمية في ريف حلب الغربي، إضافة إلى عدد من ضواحي المدينة غربها، مع منطقة عندان في القسم المتاخم لمدينة حلب من ريفها الشمالي، وذلك بعد معارك طاحنة استبسل فيها الثوار في الدفاع عن المنطقة.
وهو ما دفع القوات التركية لتحرك أكثر جدية، حيث نشرت قطعاتها في مدينة الأتارب وعلى مشارف بلدة دارة عزة، موقفة محاولات الميليشيات الإيرانية للتقدم، التي تجنبت دخول مواجهة مباشرة مع القوات التركية، كما قامت القوات التركية لأول مرة بدخول مواجهة مباشرة مع القوات المهاجمة، فبدأت مدفعيتها الثقيلة وأسراب طيرانها الموجه تدك قوات نظام آل الأسد والشركات الأمنية الخاصة الروسية في بلدة “النيرب” على مشارف سراقب، مع زيادة تذخيرها لفصائل المنطقة التي تمكنت بعد سلسلة من المعارك الشرسة استعادة البلدة في فبراير/شباط 2020، في أول تحول نوعي ضمن المعركة، انتقل فيه الثوار من الدفاع إلى الهجوم، لتتتابع عملياتهم الهجومية بعدها متمكنين من استعادة بلدة سراقب لأيام معدودة، إضافة إلى أجزاء من جبل الزاوية، كما بدأوا يحضرون لمعركة واسعة في ريف حلب الغربي تستهدف استعادة المناطق التي خسروها.
بعد انقلاب ميزان المواجهة نسبيًا لصالح الثوار، بدأت قوات النظام – بدفع من روسيا غالبًا – قصف القوات التركية بشكل مباشر موقعة عددًا من جنودها قتلى، وهو ما يبدو أنه دفع تركيا للرضوخ، فوقعت مع الروس على هدنة في مارس/آذار من العام الحاليّ، تقضي بوقف كامل لإطلاق النار والغارات الروسية، مع تثبيت الوضع الراهن وتسيير دورات مشتركة على طريقي m4 وm5 الإستراتيجيين، اللذين تسعى روسيا للسيطرة عليهما منذ بداية حملتها.
قسَم الثورة الأول
تسببت الحملة الروسية على منطقة إدلب ربما بأكبر موجة تهجير عرفها السوريون منذ انطلاقة الثورة، حيث غادر ما يقارب 1.7 مليون مدني من أبناء وقاطني المناطق التي احتلتها روسيا وإيران ضمن الحملة الأخيرة، أرضهم، حيث ينتشر معظمهم اليوم في مئات مراكز الإيواء المؤقتة والمخيمات العشوائية التي تقتصر “الخيمة” فيها على “شادر قماش” يستند إلى شجرة زيتون.
ورغم أن الجيش التركي أطلق بالاشتراك مع الجيش الوطني السوري في أكتوبر/تشرين الأول عام 2019 عملية نبع السلام، التي سيطرا فيها على أجزاء من شمالي محافظتي الرقة والحسكة على الحدود السورية التركية، فإن هذه المناطق بقيت مفصولة عن ريفي حلب الشرقي والغربي، بحيث لم تستوعب أيًا من المهجرين السوريين الجدد.
اليوم.. بعد عقد من الزمن على انطلاق الثورة السورية، وفي رمضانها العاشر، ينتشر ملايين السوريين حول العالم لاجئين في دول غالبيتها تشهد حملات عنصرية ضدهم، فيما يعيش ملايين آخرون مهجرين داخل البلاد لا يعلمون متى سيتمكنون من العودة إلى قراهم ومنازلهم، التي ما زالت معظمها خرائب بفعل نظام آل الأسد ومن معه.
ووسط انهيار الليرة السورية التي تقترب من حاجز الـ2000 ليرة للدولار الواحد، يعيش السوريون على اختلاف مناطق انتشارهم داخل البلاد ظروفًا معيشية قاسية، منتظرين معجزة ما تنتشلهم مما يقاسونه، ومُمَنِّين النفس بالخلاف الأخير بين مخلوف وآل الأسد علّه يضع نهاية لهذا النظام المجرم الذي التزم بشعاره منذ اليوم الأول: “الأسد أو نحرق البلد”.
هذه البلاد لم تفرغ بعد من الثوار القابضين على جمر الحرية.. المؤمنين بعدالة قضيتهم وحقها.. المخلصين لقسم الثورة الأول والساعين لإنجازه.. واثقين بنصر سيأتي – وإن طال – من الواحد القهار.