دأبت المنظومة الإعلامية لنظام بشار الأسد منذ بداية الثورة السورية على إصدار الأفلام التي تبث أفكارها لتشويه الانتفاضة الشعبية، وكان حريصًا على الإساءة للثوار عبر المسلسلات التي تمر نصوصها عبر أفرعه الأمنية، ولم يكن أمام رواد الثورة إلا مواجهة رواية النظام بما لديهم من إمكانات، فكان النتاج الإبداعي الذي يوثق لذاكرة الثورة هائلًا بالمقارنة مع مقدار الكبت الذي كان مهيمنًا على الجميع قبل 2011، ومن الأدوات التي كان لها أبلغ الأثر في سرد المواقف والتركيز على الزوايا المهمة من الثورة، برزت السينما لتشهد على القصة.
كان جليًا في بداية الثورة السورية، أن الكثير من الناشطين فرّغوا أنفسهم للتصوير فقط ونقل المعاناة إلى المواقع والوكالات والقنوات، إلا أنه ومع الزمن وتراجع الأهمية الإخبارية للقضية السورية وخفوت الاهتمام بما يُبث من مقاطع، كان عليهم أن ينتقلوا لتوثيق الحالة بما يضمن توثيق حكاية الانتفاضة وترسيخ سرديتها، فكان الانتقال لإنتاج الأفلام السينمائية منها والوثائقية، والاهتمام بالإنتاجات الفلمية أكثر فأكثر، وبدأت ماكينة الإنتاج وخاصةً في ظل بيئةٍ وافرةٍ بالأفكار والمعطيات التي تصلح لأن تكون كل زاويةٍ منها فيلمًا ورواية.
كان لهذه الأفلام أثرٌ واضح في نقل الواقع والمعاناة للعالم، لتحوز بعض الأفلام جوائز مهمة وتطرق باب العالمية وتوصل الرسالة التي كان من الصعب إيصالها بالوسائل المختلفة الأخرى، وأعتقد أن فيلمًا واحدًا بفكرة صحيحة وزاويةٍ مميزة يكون له صدىً في إيصال القضية أكثر من مئات نشرات الأخبار وآلاف المشاركات على شبكات التواصل، وفي هذا التقرير ضمن سلسلتنا التي نعدّها في “نون بوست” عن “ذاكرة الثورة الإبداعية“، نتحدث عن بعض الأفلام التي خرجت من رحم الثورة السورية وخلدت السيرة الثورية بمراحلها وشخوصها وتحولاتها كافة وكانت سفيرة الشعب السوري المنكوب إلى العالم.
من أجل سما
طاف هذا الفيلم العالم، ليروي قصة مدينة حلب التي حوصرت لسنوات، وهذا العمل أخرجته وعد الخطيب والمخرج البريطاني إدوار واتس، وكانت الخطيب قد صورت أكثر من 300 ساعة في المدينة التي نُكبت بقصف قوات النظام وروسيا، ووثقت وعد حياتها حيث تزوجت بطبيب وأنجبت ابنتها سما في العام 2015. وكشفت أكاديمية فنون وعلوم السينما في منتصف الشهر الأول من 2020 عن ترشيحاتها لجوائز الدورة الـ92 للأوسكار، متضمنةً فيلم “لأجل سما” لجائزة الأوسكار عن فئة الأفلام الوثائقية.
ليس بعيدًا عن الأوسكار فقد فاز هذا الفيلم بجائزة الأكاديمية البريطانية للأفلام “بافتا” لأفضل فيلم وثائقي، ويعتبر “لأجل سما” الفيلم العربي الوحيد في هذا المهرجان، وقبل أن يحصل على هذه الجائزة وترشحه للأوسكار، حصل الفيلم على 44 جائزة في عام 2019.
وعن هذا العمل قال محرر الشؤون الفنية بصحيفة الغارديان، مايك ماكاهيل، إن “الفيلم الواقعي يصور حجم المأساة التي عاشها السوريون”، موضحًا أنه “يصف مرحلة مهمة من حياة زوجين سوريين عبر مقاطع فيديو صورتها الفنانة “وعد الخطيب” لرحلتها، منذ زواجها وحملها بابنتها “سما”، ثم ولادتها، واللحظات الخطرة التي عاشتها مع زوجها وابنتها”.
يتابع ماكاهيل “الفيلم سيبقى في الذاكرة السينمائية كدليل على العجز الدولي وعلى سلوك بشار الأسد البربري، وكذلك سيبقى في الذاكرة شاهدًا على قدرة السينما على أن تفطر قلب المشاهدين وتذيب أرواحهم”، وفي السياق فاز “لأجل سما” بجائزة “العين الذهبية” لأفضل فيلم وثائقي في مهرجان كان السينمائي الدولي، وفي حفل استلامها الجائزة قالت المخرجة وعد الخطيب: “صنعت الفيلم، لأبرر لابنتي سما الخيار القاسي جدًا الذي اضطررنا إلى اتخاذه، لا شيء سيجردنا من حسنا الإنساني”.
فيلم الكهف
أنتجت شبكة “ناشيونال جيوغرافيك” فيلمًا تدور أحداثه في مستشفى سوري أثناء حصار النظام لمناطق ومدن الغوطة الشرقية وفي هذا المشفى كان الأطباء والممرضون يسعفون أهلي المدينة الذين يتعرضون للقصف من قوات الأسد وحلفائها، ويسلط الفيلم الضوء على العاملين في هذا المشفى والذين يعملون تحت الخطر من أجل مساعدة الناس وإنقاذهم. وتظهر الطبيبة السورية “أماني” كبطلة للفيلم، وتروي الأحداث كيف أصبحت أماني مسؤولة عن المشفى وطاقمه والمرضى والمصابين.
أخرج الفيلم فراس فياض، الذي قال إن دافعه للعمل كان “شعوره بالمسؤولية لكشف الجرائم التي يشهدها الشعب السوري في ظل الخذلان الدولي إزاء استخدام نظام الأسد الأسلحةَ الكيماوية عام 2013، والتي تُعد واحدة من أكثر جرائم الحرب وحشية في التاريخ الحديث”، وكان الفيلم حصل على جائزة مهرجان تورنتو السينمائي الدولي لعام 2019 بناًء على تصويت آلاف من الحضور في كافة فعاليات المهرجان.
ترشح فيلم الكهف في فئة الأفلام الوثائقية القصيرة، لجائز الأوسكار في الوقت الذي كان في طريقه لحصد المزيد من الجوائز، إذ أنه حصل على عشر جوائز عالمية من أبرزها جائزة أفضل فيلم وثائقي بمهرجان بلد الوليد السينمائي الدولي لعام 2019.
تقول الدكتورة أماني والتي خرجت بعد تهجيرها لتكمل اختصاصها ودراستها في مجال الطب: “هذه قصة مهمة للنساء اليوم وللأجيال المقبلة. تدور حول النساء اللواتي يردن الاستقلال والتغيير في الحياة، آمل أن يراه مزيد من الناس لنقترب أكثر من إنهاء الحرب وتحقيق العدالة، لا بد من أن يتغير أمر ما”، واعتبرت المنتجة في “ناشيونال جيوغرافيك”، كارولاين بيرنستين، أن “اختيار العمل كان لبطولة أماني وأهمية قصتها”، مضيفةً: “إننا نتشرف بمشاركة قصتها مع العالم ولضمان أن يشهد أكبر جمهور عالمي ممكن مدى التفاني والالتزام الذي قدمه فريقها في أسوأ الظروف”.
فيلم الخوذ البيضاء
تأسست منظمة الدفاع المدني السوري أو “الخوذ البيضاء” كما تعرف، بجهود المتطوعين الذين عكفوا على المساعدة في إنقاذ ضحايا القصف الذي يشنه النظام السوري على المدن، ومنذ نشوءها كانت المنظمة وجهًا مشرقًا لنضال الشعب بإنقاذها عشرات الآلاف من تحت أنقاض الأحياء التي يطالها قصف قوات نظام الأسد، وساعدت مئات الألوف الآخرين من النازحين والمنكوبين في مناطق متعددة من سوريا.
The White Helmets هو فيلم وثائقي من إنتاج نتفلكس، فاز بجائزة “أوسكار” عن أفضل فيلم وثائقي قصير عام 2017 خاصةً أن المنظمة تخوض حربًا مع النظام السوري وروسيا التي تعمد إلى تشويه صورتها، لكن وفي حقل تسليم الجائزة غاب فريق عمل المنظمة ومصورو الفيلم عن الحضور نتيجة لصعوبة التنقل وانتهاء صلاحيات الأوراق القانونية للبعض منهم.
الجدير بالذكر أن مصور مشاهد الفيلم، خالد الخطيب، هو مسعف في إحدى فرق الخوذ البيضاء ما عزز من مصداقية الفيلم ووسع دائرة معجبيه على المستوى العالمي، الأمر الذي ساهم بنقل معاناة السوريين إلى العالم، ويتحدث الفيلم عن القصص اليومية لمتطوعي المنظمة الإنسانية وتضحياتهم لإنقاذ المدنيين من تحت الأنقاض نتيجة قصف قوات الأسد وحليفته روسيا، على مناطق سيطرة المعارضة، والفيلم من إنتاج شركة نتفليكس، وإخراج أورلاندو فون اينسيديل.
حب في الحصار
يجسّد فيلم “حب في الحصار” يوميات عائلة سوريّة مكونة من أب وأم وأطفالهم الأربع وتقيم في منطقة محاصرة، ويهدف الفيلم لأن يشعر المتابع بالظروف وأدق تفاصيل لعائلة في حصار، ومكافحتها صباحًا مساءً للبقاء على قيد الحياة، خاصةً أن الفترة بين 2012 و2017 عاشت العديد من المدن والبلدات حصارًا خانقًا كان يفرضه النظام وكان من الواجب نقل المعاناة بكل تفاصيلها إلى العالم، واستمر تصوير الفيلم مدة يومين.
يقول مخرجه مطر اسماعيل وهو شابٌ سوري عانى من الحصار: “مونتاج الفيلم استمر فترة طويلة لأسباب ميدانية تتعلق بانشغالي بتغطية الاشتباكات في ببيلا وبيت سحم حينها، إضافة إلى الظروف السيئة، فلم أستطع العمل عليه بشكل مستمر”، فاز الفيلم الذي يمتد لـ 15 دقيقة، بجائزة سمير قصير لحرية الصحافة عن فئة التقرير السمعي البصري، عام 2016.
داريا.. مكتبة تحت القصف
هذا الفيلم الذي صور مشاهده ناشطون من مدينة داريا بريف دمشق الغربي في أثناء حصارهم بالمدينة، يروي كيف خاض العديد من الشباب تحت الحصار في المدينة حربهم مع النظام بطريقة مختلفة وغير مألوفة، كانت المعركةُ ثقافية تعليمية تريد بناء الإنسان، وتتمثل بجمعهم للكتب من البيوت المقصوفة أو المكتبات التي دمرها قصف النظام والعمل على إعادة ترتيبها ووضعها في مكتبة يستفيد منها الناس، ويواجهون بها التجهيل الذي يفرضه الأسد، وأقيمت هذه المكتبة في قبو أحد الأبنية خوفًا عليها من القصف.
الفيلم من إخراج الصحفية الفرنسية “دلفين مينوي” وبثته القناة الـ5 الفرنسية، سلّط الضوء على إرادة الحياة لدى الإنسان، ويبين هذه العرض أبطال الفيلم في تلك المدينة المحاصرة وكيف هُجروا ليعودوا لترتيب حياتهم شبه الطبيعية ويخوضوا التحديات الجديدة في ظل الصعوبات المفروضة، في دول مختلفة، الجدير بالذكر أن مكتبة داريا، أقيمت عنها الكثير من الندوات وألفت الكتب إضافةً لهذا الفيلم.
ابتسامة حرب
نقل هذا الفيلم القصير، حياة الناس الاجتماعية الموجودة إلى جانب الحرب المدمرة، وتركز لقطاته على ثبات الناس في الأرض والأمل رغم كل الدمار، ومن جهته يروي مخرج الفيلم عتبة الكيلاني لـ”نون بوست” قائلًا: “بدأت فكرة الفيلم بداية عام 2016، وذلك حينما كنت ألاحظ أنا وعبد الرحمن الكيلاني أن معظم المواد المتعلقة بسوريا والموجودة على الإنترنت مواد مليئة بالدماء والمناظر المؤلمة التي أصبحنا نهرب من رؤيتها وبالتالي نهرب من مشاهدة المواد الإعلامية التي تأتي من سوريا، وبسبب هذا التركيز الإعلامي على مشاهد العنف كان تصور من يعيش خارج سوريا أنه لا يوجد في سوريا إلا الموت والدمار”.
يضيف كيلاني “فكّرنا كيف يمكن أن نتكلم عن سوريا بطريقة مختلفة ودون مشاهد مؤلمة، حتى جاءت الفكرة أن نصنع فيلمًا يركز على ما لا تنقله عدسات الكاميرات، الابتسامات والإصرار على الحياة، خلف مشاهد البراميل المتفجرة والدمار المتراكم”، ويشير أن ما أرادوا قوله من “ابتسامة حرب”، هو “وجود حياة، هناك موت متربص في البلاد، وهناك أيضًا حياة متربصة”.
الجدير بالذكر أن الفيلم حقق مشاهدات غير متوقعة أبدًا بحسب الكيلاني، فقد لامس حاجة لدى الجمهور هم متعطشون لرؤيتها، وعُرض الفيلم على قنوات عالمية ومحلية.
نجاح الوثائقيات
استطاعت الأفلام الثورية السورية النجاح كنمط وثائقي إلا أنها دراميًا لم تحقق المستوى المطلوب، المخرج السوري يمان عنتابلي أكد ذلك في حديثه لـ”نون بوست”، إذ رأى أن “الأعمال الثورية الوثائقية استطاعت وبكل جدارة النجاح والصعود، أما التجارب الدرامية وإن وجدت فهي تجارب يتيمة وذلك عائد لصعوبة الصنعة الدرامية بشكل عام واستحواذ النظام على كل ما يساعده في الإنتاج”، ويشير عنتابلي إلى أن هذه الوثائقيات “تُحسب للثورة أيضًا، عندما ينتصر الوثائقي الذي يُصور الحقيقة المجردة دون تمثيل، على قصص وروايات درامية ابتكرها النظام كأفلام نجدت أنزور السطحية جدًا التي لم تتجاوز صالات عرضهم”.
ويضيف المخرج السوري أن المشكلة في الأعمال الدرامية تتمثل بـ”وجود كبار الفنانين في صفوف النظام بينما كل فناني الثورة منفيين ويصارعون للنجاة والبقاء في دول اللجوء، أضف إلى تلك العقبات مسألة الإنتاج والتمويل الهائل التي تتطلبه الدراما وعدم اهتمام المنتجين بها، فهي قضية غير رابحة تجاريًا، وعلى صعيد الأفلام المستقلة فهنالك صعوبة شديدة، فتمويل الأفلام المستقلة لا يؤهلك لصناعة شارع من شوارع مدينة سوريّة على سبيل المثال”.
ولعنتابلي عدة أفلام قصيرة تناولت الحالة الاجتماعية السورية كان آخرها “للعبث يا طلائع”، ويروي في الفيلم كيفية التعليم تحت ظل نظام الأسد ويقول عنتابلي عن أفلامه: “لو أردت القول إن أفلامي جسدت الثورة فهذه إجابة ربما تكون فضفاضة علي، ولعل الإجابة الأصوب تكون أن الثورة جسدت أفلامي، وذلك ابتداءً من زعتر أقل أفلامي مدةً وصولًا إلى للعبث ياطلائع 12 دقيقة”.